نظرات في البيان القرآني
يتجدد اللقاء بالقرآن الكريم في كل الفقرات وفي رمضان عبر رحلة من أمتع الرحلات وأنفعها في حياتنا وآخرتنا، فيهذب نفوسنا ويعلمنا الأخلاق والآداب والسلوكيات ويثبت معاني الإيمان في قلوبنا ويبصرنا بقيمة الدنيا وزخرفتها، ويوقظ ضمائرنا في مختلف المواقف التي تمر بنا.
فما أروعها من متعة روحية تعلو الجو المهيب الذي يتلى فيه كلام الله العظيم إذا يطأطئ المرء رأسه خاشعا وتسكن جوارحه تواضعا وتذللا وتذرف عينه ندما وتوبة وكل ليلة نستمع فيها إلى آيات القرآن الكريم في صلاة القيام نستشعر كم نحن بعيدون عن تلك الأجواء الإيمانية طوال العام، وكم نحن مفتقدون لها في أيامنا الدائرة من حولنا فتمنى ساعتها لو أن السنة كلها رمضان...
إننا بحاجة ماسة إلى خطى عملية تجاه كتاب ربنا ذاك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأولى هذه الخطوات أن نعقد العزم ونستحضر النية لتدبر القرآن الكريم قال ابن القيم: (أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويضنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك) وما أجمل قول محمد بن كعب عندما قال: (من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله) وتدبر القرآن بعمومه يتناول روعة البيان القرآني في إعجازه البلاغي، فالفضيلة البيانية إنما تعتمد دقة التصوير وإجادة المعنى كما هو، سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تتناوله عقول الناس أو لا يكون، بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى حقيقة أو خيالا، وأن يكون هدى أو ضلالا ومن أعظم صور ذلك أن تجد كلام الله يتضمن القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى بخلاف كلام العرب البلغاء، فمنهم من يذهب إلى التكلف باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب فيكلفك أن تبدي وتعيد حتى تهتدي إلى وجه مراده، ومنهم من يلقي حول المعنى ركاما من الحشو والفضول ويزيد في المترادف والمتقارب، وهذا يبدد الكلام ويزيده ولذلك فاق القرآن بإعجازه البلاغي كل كلام وأصبح خطابا لعامة الناس وخاصتهم بخلاف غيره من الكلام الذي إذا خاطب الأذكياء بالواضح المكشوف الذي يخاطب به الأغبياء لنزل بهم إلى مستوى لا يرضونهم لأنفسهم في الخطاب، وعكس ذلك لو كان الخطاب للعامة باللمحة والإشارة التي يخاطب بها الأذكياء لكان ذلك فوق طاقتهم، هذا في كلام الناس، أما في القرآن الكريم فهو قرآن واحد يراه البُلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقر به إلى عقولهم لا يلتوي على إفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة للعامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد مصداقاً لقول الله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ولعل تكرار القصص والأحداث في آيات القرآن شاهد على الأسلوب الجمالي في رصف الحروف وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة كسورة الشعراء والصافات، وهذه إحدى الخصائص البيانية للقرآن الكريم فمهما تكررت القصة تجد فيها إيضاح معنى وروعة بيان ومتعة جمالية، ولا غرابة في ذلك فإن الله أنزل كلامه بلسان عربي مبين في قالب جميل، ولذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره ومعانيه، ولو ضربنا مثلاً فمن ذلك ما ذكره الإمام الرازي في كتابه العظيم (غرائب آي التنزيل) عند قوله تعالى: (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) فقوله عن عيسى عليه السلام على سبيل الامتنان يكلم الناس كهلا هل هي معجزة؟ وأورد على ذلك إجابتين في سياق هذه الآية:
الأولى: أن في هذا إشارة إلى نزوله عليه السلام في آخر الزمان وأنه يكلم الناس وهذا من الإعجاز البلاغي والإعجاز العلمي.
الثانية: أن عيسى عليه السلام يكلم الناس في المهد كما يكلمهم حال الكهولة فكلامه في كلتا الفترتين سواء.فانظر إلى هذه الآية وكيف تضمنت هذه المعاني البيانية بحيث تنتقل إلى نفس المخاطب بكامل المعنى ودقائقه. وفي شهر رمضان فرصة للرجوع إلى هذا القرآن والتأمل فيه والاستعانة بكتب التفسير والمعاني التي تسهل على القارئ قراءة القرآن بطريقة نافعة تعود على نفسه وعقله ولسانه بالأثر الجميل وصدق الله إذ يقول: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) سورة هود. نسأل الله التوفيق والإعانة، وأن يرزقنا نعمة التأمل والتدبر، وأن يهدينا سبيل الرشاد.