"النحاسي" قد يكون لون مستقبل الأرجنتين

تتمتع البلاد بفرصة فريدة لتصبح من أكبر منتجي النحاس في العالم ولإثبات أنها مستقرة بما يكفي لجذب ومكافأة الاستثمارات

  • يتعين على الحكومة التغلب على انتكاساتها الأخيرة وتعزيز الانتعاش الاقتصادي
  • الشركات مدعوة للحفاظ على حوار قوي مع المجتمعات المحلية والالتزام بالمعايير البيئية

إن قلت لكم إن الأرجنتين هي أحدث سوق للنحاس في العالم، ربما تهزأون أو تعتبرون زعمي محيراً، لأن هذا البلد مشهور بتقلباته وتراجع سياساته وليس بالاستقرار السياسي والمالي طويل الأمد الذي تتطلبه مشاريع التعدين الضخمة.
لقد أُغلق آخر منجم نحاس رئيسي في الأرجنتين عام 2018. واليوم، يكاد الإنتاج يكون معدوماً. ورغم الاحتياطيات الهائلة، ولا سيما عبر جبال الأنديز بجوار تشيلي وبوليفيا، ما يزال جزء كبير من ثروة الأرجنتين المعدنية غير مستغل بفضل عقود من الظروف التجارية العدائية والفوضى الاقتصادية.
ولهذا السبب، كانت لزيارة متزامنة لمسؤولين تنفيذيين من شركتي (Rio Tinto) و (Glencore)إلى بوينس آيرس الأسبوع قبل الماضي رمزيةٌ بالغةٌ.
إنتاج الأرجنتين من النحاس منذ عام 2004
في 20 أغسطس، وبفارق ساعات قليلة، التقى كبار مسؤولي شركتي التعدين العملاقتين مع خافيير ميلي، رئيس البلاد الليبرتاري، وتعهد بكسر حلقة الإخفاقات الاقتصادية في الأرجنتين.
إنهم يُقدمون على رهانات جريئة: إذ تُمضي ”ريو تينتو“ قدماً في مشروع ليثيوم بقيمة 2.5 مليار دولار، بينما تدرس ”جلينكور“ مشروعين كبيرين لتطوير النحاس يتطلبان معاً استثمارات قدرها 13.5 مليار دولار.
تنظر شركات التعدين الكبرى الآن إلى الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية كوجهة استثمارية كبرى جديدة، في الوقت الذي يستعد فيه العالم لنقص حاد في النحاس في النصف الثاني من العقد، بفضل أهمية المعدن الأحمر في عملية التحول في مجال الطاقة.

مكانة رائدة تنتظرها

هناك 6 مشاريع نحاس عالمية المستوى قيد التخطيط، بدعم من شركات مثل مجموعة ”بي إش بي“ (BHP Group) و“فيرست كوانتوم مينرالز“ (First Quantum Minerals)، ويُتوقع أن تبدأ الإنتاج بين عامي 2028 و2031. إذا نجحت جميعها، فقد تتمكن الأرجنتين من إنتاج أكثر من مليون طن من النحاس سنوياً، لتحتل بذلك مكانة رائدة بين أكبر الموردين العالميين.
العبارة المفتاحية هنا هي: إذا نجحت. شهدت الأرجنتين تراجعاً في طفرة التعدين، مع تعثر المشاريع الطموحة بسبب التحولات السياسية المفاجئة وأزمة العملة. لاغتنام هذه الفرصة الذهبية، يتعين على حكومة ميلي التغلب على انتكاساتها الأخيرة (بما في ذلك فضيحة رشوة متفاقمة) وتعزيز الانتعاش الاقتصادي.
علاوة على ذلك، يجب على المشرعين وقادة المقاطعات، وخاصة من المعارضة التي تركز على المكاسب الحزبية أكثر من الرفاه الوطني، أن يضاهوا التزام ميلي.
في الوقت نفسه، يتعين على الشركات من جانبها، الحفاظ على حوار قوي مع المجتمعات المحلية والالتزام بالمعايير البيئية الصارمة - إذا لم ترغب في تكرار كابوس شركة ”فيرست كوانتوم“ في بنما، حيث أجبرت الاحتجاجات على مستوى البلاد على إغلاق منجم النحاس العملاق التابع لها في عام 2023.
لقد شهدت هذه المخاطر بنفسي: في عام 2006، أثناء إقامتي في لندن، شهدت حماس مسؤولي ”ريو تينتو“ وهم يكشفون عن مشروع ضخم للبوتاس في ميندوزا، المقاطعة الأرجنتينية الشهيرة بنتاج كرومها.
بدا مشروع ”ريو كولورادو“ وكأنه نقطة تحول، فهو يقع قرب البرازيل، وهي عملاق متعطش للأسمدة، وبه بنى جيولوجية رائعة واهتمام بالغ من الأعمال التجارية. اشترته شركة ”فاليه“ (Vale) عام 2009، متعهدةً بتخصيص 6 مليارات دولار للتطوير؛ وهو أكبر استثمار في البلاد آنذاك بلا منازع.

إحباط شامل

مع ذلك، بعد استثمار أكثر من ملياري دولار وإكمال ما يقرب من نصف المشروع، تخلت عنه الشركة التي تتخذ في ريو دي جانيرو مقراً لها عام 2013، بعدما أحبطها التضخم وضوابط رأس المال والمطالب غير المنطقية من جهات متعددة.
بعدما يقرب من عقدين، ما يزال ”ريو كولورادو“ مجرد وهم؛ وما تزال البرازيل تستورد معظم احتياجاتها من البوتاس من روسيا.
هذه ليست حالة معزولة: فقد شهد روبرتو كاتشيولا، الخبير المخضرم في الصناعة والذي يرأس غرفة التعدين في البلاد، كثير من المحاولات الفاشلة لاستغلال أكبر مكامن التعدين في الأرجنتين.
ومع ذلك، يعتقد أن هذه المرة قد تكون مختلفة. فقد أنشأت حكومة ميلي إطاراً قانونياً جديداً، يُعرف اختصاراً بالإسبانية باسم (RIGI)، يقدم ضمانات وحوافز ضريبية ومزايا تنظيمية للاستثمارات الرأسمالية الكبيرة.
كما تتفق البلاد على ضرورة تركيز السياسات الوطنية في بعض القطاعات -الطاقة والزراعة والتقنية، وبالطبع التعدين- على تعزيز الصادرات بغض النظر عن هوية الرئيس.
الأهم من ذلك كله، في وقتٍ تندر فيه المكامن الجديدة ويصعب تطويرها، فإن جيولوجيا الأرجنتين تجعلها وجهةً جذابةً لا تُقاوم.
قال لي كاتشيولا من بوينس آيرس: "الظروف مهيأةٌ لنمو هذا الطفرة، لكن يجب أن نتجنب الركود الذي لطالما عانى منه اقتصاد الأرجنتين... لن يحدث أيٌّ من هذا بين عشية وضحاها. لقد خاب أملنا بالفعل عدة مرات".قدرات الأرجنتين لإنتاج النحاس.

دعم جيوسياسي

تشير الأرقام إلى تقدمٍ ملحوظ. في العام الماضي، صدّرت الأرجنتين معادن بقيمة 4.65 مليار دولار، تصدرتها شحنات الذهب، بزيادةٍ تُقارب 44% عن 3.24 مليار دولار المسجلة في عام 2021.
ويُتوقع أن يتضاعف إنتاج الليثيوم 4 أضعاف مُقارنةً بالعام نفسه. كما وقّعت الحكومة اتفاقية مع إدارة بايدن المنتهية ولايتها لتعزيز سلاسل توريد المعادن الأساسية، فاكتسبت طموحاتها نفوذاً جيوسياسياً.
لكن مشاريع النحاس الضخمة هذه تُمثّل الاختبار النهائي. إذا نجحت الأرجنتين في تنفيذها، فلن يقتصر ذلك على تأكيد أن طفرة التعدين حقيقية، بل إن البلاد نفسها قد فتحت آفاقاً جديدة فعلاً.

مدير تحرير بلومبرغ نيوز لشؤون الاقتصاد والحكومة في أمريكا اللاتينية.

خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي