غازي والنجمُ البعيد

* عندما تكونُ أنتَ المهيمنُ بمبادئِك، بقلبـِك، بروحِك، بعقلك وبضميرك تكون سيّداً في ذاتك لذاتك، وتشملك هذه الهالاتُ الإبهارية التي يراها من يقفُ ضدّك فتـُربـِكُ بصرَهُ، ويراها من يقف معك فتضيء له الدربَ والطريق. عندما تكون أنتَ المهيمنُ بذاتِك ولذاتِك لا يتغير جلدُكَ بوظيفتِك، ولا تتمسَّحُ لمتطلباتِ منصبك، ويبقى الجلدُ الأديمُ أقوى من جلد الكرسيِّ الوثير، تكون سيّدَ وظائِفك، وآمِرَ مناصبك.. فيحبك من في الخارج، ويتضايق منك وفيك المنصبُ والكرسيُ ذاتهما.. عندما تكون أنتَ أكبرُ مما تُعـْطـَى، مهما أُعْطِيتَ، فأنت سيـِّدٌ لا تُقاد. عندما تكون غازياً مغواراً بلا أن تجرحَ نملةً، دون أن تسلبَ قطرةَ دمٍ واحدةٍ، وتـُدَكُّ الأرضُ من تحتِك من هول معاركِك.. تكون غازي القصيبي!
***
* ''.. مُعلـِّمي، ربّما لم تعد ترى الآن كيف غيرت َ الأشياءَ، ولكني أنا أرى. إن العجلاتِ الآن تدور تلك التي لم تدُرْ من قبل.. والريحُ تئِنُّ كما لم تئِنُّ من قبل. وتقاطر الناسُ لمحفلِكَ الأخير من كل درْبٍ ومن كل مكانٍ وكل رغبةٍ، منوَّمين بسِحْر شخصيتِك في المماتِ كما في الحياة. كل هذه القوة تجمعَّتْ بسبب فورةِ أحلامِك، واعتدادك بذاتك، وانتباهك لهديرِ عقلك، ولعصاك السحرية التي دارت في كل زاويةٍ وجادّةٍ ومَحْفلٍ ورؤىً وزمانٍ تنشر الهالاتِ حولك.. لو كنتَ ترى يا مُعَلمي، لو كنتَ ترى.. ولكنـّي أرى.. رغمَ الدموع سأرى، فأنت الذي علـّمتني أنه يجب أن أرى قبل أن أبصر.. علـّمتـَني أن آخذ روحَكَ مشتعلةً وأكملُ الرحلةَ لدَحْرِ الظلام. نـَمْ هانئاً.. فقد آنَ أن تنام..''، ثم وضع المريدُ الطاوي ما كتبه على شاهدِ معلمه، ومضى للرحلة.
***
* قرأت العبارة السابقة في مذكرات مريدٍ من المذهب الطاوي الصيني، وتقوم على احترام وإجلال المعلمين، رسالةٌ كتبها أمام قبر معلـِّمِه الراحل، أمام كهنةٍ يحرقون أوراقَ السَّرْو لتتحدَ مع روح المعلم في المعارج العليا.. وأنا أترجم الكلماتِ لم أرجع للفحص، وكأني أكتبُها من قلبي في قلبي. وفجأة.. رنّ الهاتفُ وأنا بعيد .. كان الصوتُ حزيناً: ''الدكتور غازي إلى رحمة الله''.
***
* نعم يا معلمي أدرتَ عجلاتٍ صدئتْ لأنها لم تدُرْ. قـُدْتَ عربتـَكَ وحيداً، يتبعك الناسُ أيّاماً يهللون ويرمون على الدرب الزهورَ، وينثرون العطورَ. وقُدتَ عربتـَك وحيداً وأنت في المناصبِ الكبار تعاندُ وتجادلُ وتبث رأياً منافحاً لا تقبل غير ما ''ترى''، فأحبك من بالخارج، وضاق بحزمِك من في الداخل. قُدتَ عربتـَك وحيداً وأنت في محطةِ ''العمل'' الأخيرة فرُميتَ بالحجارة أكثر مما رُشِقْتَ بالزهور، وحتى الزهورُ كانت يابسةً شحيحةً وضنينة.. ولكنك دوما تقودُ هذه العربة وحيدا لا تلتفت للوراء، لا للمديح ولا للعواء.. كان في عربتِك كفايتُك، فأنت بزحمةٍ بذاتك، كنتَ بالعربة مثل ساحرِ القبعة، مرة تخرج ديوانا، ومرة تخرج قراراً، ومرة تخرج روايةً، ومرة تخرج سيرة، ومرة تخرج مسرحية لك بالكامل أنتَ المؤلفُ والمنتجُ والمخرجُ، والبطلُ الوحيد.. ثم هذه القصاصات التي لا تنتهي التي تـُصرّ أن تكتبها بخط قلمِك حتى كدتُ أصدقُ أن سكانَ الجزيرة وصلت لكل منهم قصاصة من القصاصات. عرَبَتـُكَ كانت سيركا عقلياً فخما مبهرجاً متنوعا مجبولا على التصميم والعناد والقوة وعبقرية التفرد وحلاوة لا تقاوم في الروح، وجبروتاً لا يقاوم كأعاصير الجزر في المبدأ.. المبدأ الذي هو من صنعك وإيحائك. عربتـُك لم تترك طريقا لم تسلكه، عربتـُك لم تترك نفـْسا في البلاد لم تجُل بها، أمّا تتهافتُ كريشةٍ تراقص النسائمَ، أو تهبّ كزوبعةٍ شوك تمر ثم تترك الأثرَ.. كنت في عربتك وحيداً، وكلنا كنا نتزاحم حولك، كلنا يريدُ شيئاً من غازي، يريد منه كلمة، حرفاً، أو قطعة لحم.. أو قطرة دم.. وكلٌ أخذ مبتغاه!
***
* والعربة تمضي.. ولكن دواليب العربة ستستمر تجري في ردهاتِ التاريخ بكل ما حمِلـَت وحيدةً.. حتى من قائدها!
***
* وأكثر من طوَّبَ الراحلَ الكبيرَ هم الجيلُ الشابُ، وصلتني عشراتُ التعليقات من بنات وأبناء الوطن ينعون بحرارة منارةً كبرى انطفأ مصباحُها، ولكن نورُها أعطى الجهاتِ الكبرى في قلوبهم. تحولت الصورُ في الفيسبوك من الصور الشخصية إلى صورة الراحل الكبير، وكلٌ يأخذ مقتطـَفاً من أروع ما قال. وفي موقع ''العربية'' تنعى الشابة ''رجاء الصانع'' أستاذها وأباها الروحي وتقول إنها تيتـّمَت للمرة الثانية، وأن تشجيعاً منه جعل روايتها تدور الكوكبَ بثلاثين لغة.. رغم كل ما قيل عنها. هؤلاء الأجيالُ الشابة دليلٌ على أن غازي مات.. ليبقى!
***
* وفي الفضاءِ السحيق عندما يموتُ النجمُ الساطع يخلـِّفُ جاذبية هائلة تبلعُ الأجرامَ.. للأبد!
***
* يا الله، تسلمتَ الأمانة في رمضان.. اللهم إن رحمتـَك تسع السمواتِ والأرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي