مدننا بين الانسجام والتباين

مفهوم المدن المنسجمة يقوم على أساس تحقيق حالة من التنوع المنسجم بين مكونات المدينة الواحدة كافة, سواء في الجانب المكاني أو الاجتماعي أو البيئي، وهو إذ يتعلق بالمدينة الواحدة, فإنه يتسع للمقارنة بين أكثر من مدينة في بلد واحد. مفهوم تؤكده وكالات الأمم المتحدة المتخصصة؛ بل جاء في أحد التقارير النص التالي: ''أصبح الانسجام الآن بمنزلة الأساس النظري لإيجاد فهم معمق للنسيج الاجتماعي, الاقتصادي، السياسي، والبيئي للمدن من أجل خلق مجتمع أكثر توازنا''. وهو أمر ليس جديدا, إلا أن الفوارق المجتمعية التي تزداد يوما بعد يوم، بسبب عوامل كثيرة، تلح على فتح الملف ومحاولة إيجاد حلول لواقع لا تكاد تنجو منه مدن العالم كافة, مع تباين نسبي من حالة إلى أخرى.
مفهوم الانسجام لم يعد ذا دلالة تنموية وحضرية فقط, إنما تعداهما إلى المدلول الحقوقي الذي يجب الوفاء به على سبيل الوجوب وليس الجواز. بمعنى أن الحكومة، على تنوع مؤسساتها، معنية بضمان تحقيق هذا الانسجام، نظرا لتعلقه بأكثر من حق من حقوق الإنسان, كحقه في الصحة وحقه في التعليم وحقه في الأمن. المدينة المنسجمة ليست فقط تلك التي تحظى ضواحيها بالقدر نفسه من الاهتمام والخدمات, مع أهمية ذلك؛ لكنها أيضا المدينة التي يحظى جميع سكانها بالقدر نفسه من الفرص التنموية والمعيشية، أو على الأقل القدر المعقول الذي يوفي بمفهوم الانسجام بين أجزاء جسد المدينة الواحد.
هناك فرق كبير بين التنوع وبين عدم الانسجام, فالتنوع أمر مطلوب, وهو سمة طبيعية لأي مجتمع, لكن الخطر يكمن في عدم الانسجام وانعكاساته السلبية على الجوانب الاجتماعية والأمنية وسواهما, إذ لا حدود لهذه الآثار طالما ظلت حالة عدم الانسجام قائمة، ولو لم تظهر بعض الأعراض؛ فإن المرض لا يزال كامنا وقد تظهر أعراضه في أي وقت، بما في ذلك ارتفاع معدلات الجريمة والفقر والبطالة، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي يغذيها الاختلاف والتباين وعدم الانسجام.
مشكلة التباين الذي تفرز عدم الانسجام, أنها تراكمات لعدد من الأسباب التي ربما يصعب تقصي حقائقها, لأنها حدثت في ظل ظروف كثيرة, ليس منها بالتأكيد تعمد الإهمال بقدر ما هو حالة من حالات ضعف التخطيط وسوء الإدارة التنفيذية، ثم انعدام المبادرة والجرأة في مواجهة واقع لا يخفى على أحد, خاصة في مدننا الكبرى, حيث تتعاظم الكثافة السكانية، ويزداد الانتقال من القرى والمدن الصغيرة إلى هذه المدن. ليس المطلوب أن تكون أجزاء مدننا كافة نسخة من بعضها بعضا شكلا ومضمونا؛ إنما المطلوب أن تتكامل هذه الأجزاء فيما بينها لتألف وجها حضاريا يليق بنا.
لا شك أن مدننا تواجه تحديات كبيرة رغم المخصصات المالية الضخمة ورغم الرغبة في التطوير والتطور. مشكلة الصرف الصحي أو تصريف السيول أو المناطق العشوائية جديرة بالمواجهة, لكنها، مع كل ما دار حولها وبسببها، تمثل بعض صور عدم الانسجام التي يجب أن نبادر لاحتوائها لتحقيق توازن يعكس انسجام الجسد الواحد؛ فالمدن ليست الشوارع وجدران الأسمنت والحدائق, إنها الإنسان.. فأي إنسان نريد؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي