خطط التنمية .. تتطلب استراتيجية وطنية!

ماذا قدمت خطط التنمية للوطن؟ وما تأثيرها على تطور المجتمع اقتصاديا وثقافيا؟ والسؤال الأهم هل تبنت نهج التنمية المستدامة؟ وهل أسهمت في بناء القدرات والخبرات التراكمية الوطنية؟.. أسئلة كبيرة ربما يصعب الإجابة عنها، ومكمن الصعوبة في تباين وتعدد الآراء ووجهات النظر لمفهوم التنمية والتطور الاجتماعي والاقتصادي؛ فالبعض يرى التنمية من منظور المصالح القريبة الآنية وتحقيق الاحتياجات المعيشية الاستهلاكية الملحة ومعالجة المشكلات الحالية، وقليلون يرون أنها في تحقيق المصالح العليا للوطن في المدى البعيد، وإسهامها في صناعة المستقبل. لا شك أن هناك الكثير من التحديات والقضايا التي تتطلب معالجتها بشكل حازم وسريع، لكن هذا لا يعني التوقف عند مستوى معين من التنمية والانشغال بالحاضر على حساب المستقبل، والاعتقاد أن الخطة الخمسية هي خطة استراتيجية كافية لنقل المجتمع إلى مستويات أعلى من التحضر والتقدم الصناعي والتطور الاجتماعي.
لا يصح أن تكون الخطة الخمسية هي أقصى مدى للتخطيط الوطني، وإنما يفترض أن تكون جزءا من منظومة استراتيجية وطنية للـ 50 عاما المقبلة. فكل خطة خمسية تكون بمثابة مرحلة بناء تسهم في تحقيق أهدافنا الوطنية بعيدة المدى. وهنا يبرز السؤال: هل لدينا استراتجية وطنية للـ 50 عاما المقبلة تحدد ماذا نريد أن نكون عليه كمجتمع اقتصاديا وثقافيا وحضاريا؟.. أي ما هدفنا الذي نسعى إليه في تشكيل مستقبلنا؟ ما نوع الصناعة والمجال الاقتصادي التي نرغب أن نبرز فيه، وتكون لنا الأفضلية التنافسية، ولا يستطيع أن يجارينا فيه الآخرون؟.. لا نستطيع أن نكون كل شيء؛ لأن ذلك يعني لا شيء، لا بد من التخصصية في مجالات محددة ودفع جهود وموارد التنمية نحوها. هناك مجالات قطعنا فيها شوطا وأنفقنا عليها الكثير من الموارد مثل الصناعة النفطية ومنتجاتها، وتحلية مياه البحر، وتوليد الطاقة، لكن للأسف لم نبنِ فيها الخبرة ولم نطورها ولم نسعَ لاستثمارها في التفوق، وأن نكون رقم واحد في تلك المجالات.
لا يكفي العمل وبذل الجهد والإنفاق السخي، لكن الأهم أن يكون هناك خطة للطريق وبوصلة نحدد من خلالها الاتجاه العام والمسار التنموي وأهدافنا الاستراتيجية. السعي نحو إحداث التغيير الاجتماعي لا يكفي، لكن الأهم اتجاهه، الذي يجب أن يكون حاضرا في كل مرحلة من مراحل التنمية الوطنية: خلال الـ 50 عاما المقبلة؟.. هكذا نستطيع التوفيق بين ما نقوم به على المدى القصير وما نريد تحقيقه على المدى البعيد. الخطة الاستراتجية للـ 50 سنة المقبلة هي البوصلة التي تحدد الاتجاه وما ينبغي عمله وتوضح مسارنا التنموي. المهم ليس تسريع الإجراءات وتنفيذ المشاريع، وتقديم الخدمات وتصنيع المنتجات، لكن هل هذه المشاريع ستقود إلى تطوير نوعي في صناعاتنا واقتصادنا وثقافة مجتمعنا ومستوى تحضرنا؟ هل سنكون أكثر قوة على منافسة الآخرين؟ وأكثر قدرة على مواجهة التحديات في المقبل من الأيام؟.. يجب أن نفكر في المحطة البعيدة لقطار التنمية؛ حتى يكون وصولنا إليها كمجتمع في التوقيت المناسب، والأهم أن تكون المحطة المطلوبة!
التنمية تعني صناعة المستقبل، وهذا يتطلب الاستثمار فيه وتوجيه الموارد نحوه، وهو أمر صعب؛ لأنه يعني التضحية بالرخاء المعيشي والاستهلاك الحاضر من أجل المستقبل. لا شك أن التفكير في المستقبل والعمل من أجله مكلف اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، لكن مردوده عالٍ وغاياته سامية، بل هو أمر لا بد منه. ضرورته تنبع من أن بناء المستقبل يبدأ في الحاضر، ولا يمكن إرجاؤه فيما بعد أو تأجيل التفكير فيه؛ لأن ذلك سيقود إلى نهج إدارة الأزمات، حيث تتراكم المشكلات وتتحول إلى طود كبير يصعب علينا بعدها التعامل معها. ولذا هناك مشاكل مجتمعية صغيرة، لكنها اكتسبت أهمية كحالة مستعجلة وملحة وليس لأنها أولوية، وإذ لم نستطع التمييز بين المهم والأهم، اختلطت الأوليات الوطنية وجعلنا نفقد الاتجاه الصحيح، وأن تذهب الجهود والموارد في غير محلها. وهذا يظهر مرة أخرى أهمية صياغة استراتجية وطنية بعيدة المدى لتكون مرجعية في تحديد أولوياتنا في كل مرحلة من مراحل التطوير الاجتماعي. إن الاهتمام بالمستقبل البعيد يتطلب التضحية وهو أشبه بمن يدخر فيقتصد في معيشته ووقته وجهده في الأمور الاستهلاكية من أجل مستقبل أفضل. الاستثمار يعني ببساطة الاستهلاك في المستقبل، أي إرجاء الاستهلاك من الحاضر إلى المستقبل! الإشكالية أن الكثيرين لا يرغبون الانتظار أو لا يملكون بعد النظر، وربما تلبستهم الأنانية متمثلين قول الشاعر العربي: وإذا مت عطشانا فلا نزل القطر!
في المقابل، هناك من يدعو إلى التخلي عن منطقة الراحة والمألوف ونفض حالة الجمود والتوجه نحو الجد والاجتهاد وإحداث التغيير الذي يقود إلى نقلة نوعية للمجتمع. فهذا الأمير خالد الفيصل يصدح برؤيته "نحو العالم الأول"، وكأني به يريدنا أن نلتفت إلى المستقبل، وأن نتطلع إلى الأفق البعيد وأن تكون طموحاتنا أكبر وهممنا أعلى، لا نأنس بالرخاء والعيش الرغيد، وإنما الحرص في ضمان استمراريته، وأن يكون يومنا أفضل من أمسنا وغدنا أفضل من يومنا. هذا التوجه الاستراتيجي نحو المستقبل نراه في نهج إدارة تنمية قطاع السياحة الذي يقوده الأمير سلطان بن سلمان، لكنه تواجهه تحديات البيروقراطيات البطيئة وقراراتها الروتينية، ومصالحها التي لا تتعدى أسوارها ونظرتها إلى المستقبل في أشهر معدودات، إن لم تكن أقل من ذلك! ومع كل الجهد نحو تفعيل العمل المشترك وتنسيق الجهود والاتفاق على أهداف مستقبلية لبناء قطاع اقتصادي جديد يعود بالنفع على الجميع، إلا أن الرؤية الوطنية تكاد تكون غائبة في زحام الإجراءات الورقية اليومية وانشغال كل جهاز حكومي بقضاياه ومشاكله. وربما هذا ما يجعل الناس في حيرة من الأمر، فعلى الرغم من الجهد الكبير الذي تبذله الهيئة العامة للسياحة والآثار في تطوير السياحة المحلية، إلا أنه لم يتحقق الوضع المطلوب، وتفسير ذلك يختزله المثل الشعبي "أيد وحدها ما تصفق"! قد يكون هذا التبعثر الإداري أحد معوقات التنمية، فكل قطاع وجهاز حكومي يعمل، لكن بانفراد، والسبب بكل تأكيد غياب الاستراتيجية الوطنية التي تقود نحو التنسيق والعمل المشترك. هناك مبادرات أمانة منطقة الرياض مثال حي على التفكير خارج الصندوق وتقديم نهج جديد في إدارة المدن من الاكتفاء بتقديم الخدمات البلدية التقليدية إلى أنسنة المدينة وجعلها أكثر جاذبية وراحة وإنتاجية، والأهم تطوير الجانب الثقافي والحضاري عبر أنشطة ثقافية لم تكن معهودة من قبل. هذا يعكس حس المسؤولية لدى أمينها الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف وسعة أفقه في تحقيق المصالح العليا في بناء المجتمع المحلي وإعداده للمستقبل. هذه فقط أمثلة لقيادات وطنية ذات وجهة مستقبلية، وهناك الكثير الذي لا يتسع المجال لذكرهم، لكن يبقى أن هذه المبادرات تتطلب منظومة استراتيجية للعمل الوطني التنموي، فهي ما يصنع الفرق بين المجتمعات المتقدمة والنامية. ما نحتاج إليه هو التفكير في سيناريوهات الوضع ما بعد النفط والإعداد له من الآن، وإدراك أن الأمر يتطلب أكثر من خطة خمسية، فهي ليست استراتيجية وطنية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي