المتدين وإشكالية الثقافة (3 من 10)
لا يوجد مفهوم يتوسع معناه باستمرار مثل الثقافة, فهناك المئات من التعاريف للثقافة, فهي تكتسب معاني متعددة ومتنوعة بتعدد وتنوع اللغات والعلوم والأماكن والأزمنة, ولعل السر وراء هذه الكثرة وهذا التنوع في معاني الثقافة, هو أننا أمام مفهوم يريد أن يحوي جميع شؤون حياة الإنسان المادية والمعنوية, فأين لنا بذلك التعريف أو المعنى الذي يحوي حياة الإنسان كلها, فحياة الإنسان لا يشكلها فقط وجوده أو حضوره العلني, فهناك عوالم أخرى مختلفة ومخفية في الإنسان لها الدور الأكبر في تشكيل الحياة. ليس بالمستغرب إذاً أن تبدأ أكثر التعريفات المشهورة منها بالخصوص بأن الثقافة هي ذلك المجموع أو الكل المعقد الذي يشمل كل شيء, فهو يجمع المعارف والعقائد معا, ويجمع الفنون إلى جانب الصناعات, ويحوي الأفكار والسلوكيات ويضم القوانين والأخلاق إلى جانب العادات والتقاليد. مفهوم كهذا يحوي كل هذه الأشياء لا بد له من أن يكون فعلا حجر الأساس لبناء الحياة, فالحضارة والمدنية وإن كان يراهما البعض على أنهما أوسع أو أضيق من الثقافة, لكن في الواقع تقترب الحضارة من الثقافة في معناها حتى تصبح وكأنها مرادفة لها.
عندما يكون للثقافة كل هذا الثقل في المعنى, وهذا التأثير في الحياة, فلا بد للإنسان والمجتمع معا من أن تكون لهما رؤية واضحة ومتكاملة للثقافة, وهذا ما يفتقده جل المتدينين في عصرنا الحاضر. البعض ينظر إلى الثقافة على أنها منتج بشري يحوي أفكارا وقناعات وأشكالا وممارسات, يراد بها أن تزاحم ما عند الإنسان من قيم وقناعات ومعتقدات وطقوس إلهية, ففي الثقافة إيحاء بالندية وتعبير عن رغبة عند الإنسان في التمرد على ما يفرض عليه حتى لو كانت من اللوازم والمقدسات. المتدين ربما يخاف أن الثقافة قد تشغله أو تأخذه بعيدا عن دينه, وهو لا يرتاح للمثقفين, ولا تجد عنده رغبة في التواصل معهم والانفتاح عليهم, لأنه قد يراهم على أنهم أعداء محتملون في الدائرة القريبة منه, فمهادنتهم ممكنة, لكن الاصطفاف معهم مستحيل, والنتيجة أن يتهم المتدين بأنه عقبة في طريق تقدم المجتمع ورقيه, وأن يتهم المثقف بأن ما يريده في الأساس هو زعزعة ثقة الناس بدينهم وتمسكهم بمعتقداتهم, وكانت خسارة المجتمعات الإسلامية في دينها وثقافتها.
وهناك من المتدينين ممن لا يحيط بكل ما تعنيه الثقافة من معنى, ولا يدرك سعتها ومساحة تأثيرها في الحياة, فهو يهمش مكانتها, ويرى أنها تختص بجوانب محدودة وضيقة في حياة الإنسان, فأكثر ما تهتم به هو الجانب الأدبي والفني وغير ذلك من الجوانب التي ليست بتلك الأهمية في حياة الإنسان والمجتمع. هذا التهميش وعدم الاهتمام بالثقافة يؤدي, خصوصا في المجتمعات الدينية, إلى تعطيل دورها وحرمان المجتمع من أهم مقومات النهوض المادي والمعنوي. التضييق على الثقافة وتحجيمها والتقليل من دورها وأهميتها أفقدت المجتمعات الدينية القدرة على توظيف ما عندها من مخزون روحي ومعنوي وأخلاقي وقيمي للنهوض بنفسها والأخذ بأسباب التطور والتقدم. الثقافة هي إذاً أكبر من الآداب وأوسع من الفنون وأشمل من العادات والتقاليد, وعلى المتدين أن يتجاوز هذه النظرة الضيقة للثقافة, لأن الثقافة عندما تضيق وتنكمش, تنكمش بها الحياة كلها, حتى الدين على علوه وسموه قد يضيق بالثقافة المنكمشة على نفسها لأنها لا تتيح له أن يتواصل مع الإنسان في داخله, حيث هناك يصنع السلوك وتختزن الأفكار وتعجن العقائد وتنتج الأحاسيس والمشاعر وتشكل الرؤى والمواقف. الثقافة هي الجسر للعبور إلى عوالم الإنسان الداخلية, وعندما يضيع علينا هذا الجسر تتحول عوالم الإنسان الداخلية إلى سراديب مظلمة تستوطنها الخرافات والأوهام, وتعشش فيها الأباطيل والقناعات الزائفة, حتى إذا ما وجدت فكرة أو حقيقة ما طريقها إلى هذا الداخل فإنها حتما ستتشوه وينعكس أثرها سلبا في حياة الإنسان. تجد هناك من المتدينين ممن يدعون إلى المحبة باقتناع, لكن ممارساتهم مبللة إلى حد الإشباع بأبشع أنواع الكراهية. وتجدهم يؤكدون حرية الناس وهم يمارسون الاستعباد في أقسى صوره, حتى الأخلاق يقرأونها وينشرونها بشكلها الحسن ويمارسونها بأسوأ وأكثر أشكالها انحطاطا, هكذا يكون الحال عندما يحرم الإنسان من الثقافة, وكلما صعدت به الثقافة إلى الأعلى انعكس ذلك إيجابا على كل شيء في حياته. المتدين غير المثقف فعلا عقبة, ليس فقط في طريق بناء شخصيته وبناء مجتمعه, بل عقبة في طريق الدين ليأخذ موقعه الصحيح في الحياة.
هذه الرؤية المحدودة والنظرة الضيقة للثقافة من قبل المتدين تجعله لا يهتم بالشأن الثقافي ويعزف عن المشاركة في جهود مجتمعه لإصلاح الثقافة وتنميتها على الرغم ما للدين من دور كبير في تشكيل ثقافة المجتمع. الدين منبع لكثير من القيم والمبادئ والمثل والأخلاق والقناعات, وقراءة المتدين كل هذه الموضوعات في غير إطارها الصحيح يخل بكل ثقافة المجتمع ويقلل من فرص نجاح المجتمع في تطوير ثقافته وتنمية قدراته. في النقاط التالية عرض مختصر عن أهمية الثقافة للمتدين:
1- لعل أكثر ما تعطيه الثقافة للإنسان والمجتمع هو الوعي, فالمتدين المثقف أكثر وعيا من المتدين غير المثقف, فالدين أمانة والمتدين يفترض أنه يتحمل مسؤولية هذه الأمانة أكثر من غيره, «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا», وأكثر ما يخاف على الدين توظيفه في ثلاثة أشياء, أولا توظيفه سياسيا من أجل الاستبداد على الناس, وثانيا توظيفه اقتصاديا لغرض استغلال الناس, وثالثا توظيفه أخلاقيا من أجل استغفالهم واستعبادهم, فالدين فيه من الجذب والقداسة والطاعة والتسليم والقناعة والزهد في الدنيا والروحانيات ما يجعله مطلوبا للتوظيف من قبل فئات متعددة ولمصالح متنوعة. القراءة الواعية للأحداث والظروف المحيطة بها ضرورة لحماية الدين من التوظيف لتحقيق أهداف لا تنسجم بالضرورة وما يدعو إليه الدين من مبادئ ومثل.
2 - هناك في دائرة الدين ثلاث مناطق, الأولى تختص بالثابت من الدين والثانية بالمتغير, والأخيرة هي منطقة فراغ, لكنه ليس فراغا في المطلق لكنه فراغ في إطار الرؤية الكلية للدين. وللإنسان أن يتحرك في كل هذه المناطق, فحركته في منطقة الثابت حركة تتجه به إلى العمق ليزداد فهما واستيعابا لهذا الثابت, وهناك له حركة جانبية تحفظ لهذا الثابت من أن يضاف إليه ما ليس بثابت, وحركته في المتغير هي من أجل فهم دواعي التغيير حتى لا يأتي هذا التغيير في إطار من الفوضى أو الجمود, أما الحركة في منطقة الفراغ فهي من أجل شغل هذه المنطقة في إطار فهم الواقع. أول مشكلة يواجهها المتدين هي تحديد الخطوط الفاصلة بين هذه المناطق الثلاث ومن ثم رسم الطريق لحركته في كل منطقة, والمتدين المثقف أقدر بكثير من المتدين غير المثقف في تحديد الخطوط الفاصلة بين هذه المناطق, فالدين بما له من قدسية وبما يتسم به من سمو وعلو يوحي للإنسان بأن كله ثوابت, حتى مع المتغير فإن حركته كانت وقتية وفي نقطة ما تجمد هذا المتغير وتحول إلى ثابت.
3 - الثقافة تسعى دائما إلى ربط الإنسان بالواقع, وإشكالية المتدين في الابتعاد عن هذا الواقع والتعالي عليه, وهذا يؤدي بنا إلى أن يكون عندنا دين غير قابل للتطبيق. ليس المقصود هنا تكييف الدين لينسجم مع الواقع, بل المطلوب هو فهم الواقع على ما هو عليه ومن ثم اعتماد هذا الفهم للواقع كأحد العناصر المهمة في قراءتنا للدين. العزوف عن فهم الواقع لا يخدم المتدين في تدينه, لأنه من غير فهم الواقع لا يمتلك الإنسان التأثير والقدرة على تغيير هذا الواقع.
أخيرا يمكن القول إن الثقافة تساعد الإنسان على تصحيح رؤيته للأشياء, والمتدين بنظرته المغلوطة للثقافة يصبح أكثر عرضة لفهم الأمور على غير حقيقتها, فهو يحرم نفسه من التواصل مع الآخرين, لأنه غيّب البعد الإنساني في فهمه للدين, وهو يستغرق في التنظير لأن الواقع مغيب في تفكيره. إن حاجة المجتمعات الإسلامية إلى المتدينين المثقفين اليوم كبيرة جدا, لأن ما يجنيه بعض المتدينين على الدين أكثر مما يجنيه عليه الأعداء.