هيئة الاستثمار .. مناقشة مع مسؤول
نشرت إحدى الصحف المحلية قبل نحو أسبوعين تصريحا مطولا للمهندس علي شنيمر، الرئيس التنفيذي لخدمات المستثمرين في الهيئة العامة للاستثمار. عرفت الأخ علي، وآمل أن يسمح لي بأن أدعوه بهذا الاسم، قبل انضمامه إلى هيئة الاستثمار، وهو رجل محنك اعتركته حياة العمل في القطاع الخاص قبل أن ينضم إلى القطاع الحكومي، وهو بذلك أصبح جامعا لمعرفة عميقة بدواخل وواقع وثقافة القطاعين, بما يمكّنه من أن يعمل من موقعه على جسر الهوة بينهما. وحيث إنني وجدت أن هذا التصريح أتى في معرض الرد على ما أوردته في مقالي الذي نشر في صحيفة ''الاقتصادية'' قبل نحو الشهر, وعلى مجمل ما يطرحه الإخوة كتاب الرأي حول واقع الهيئة, فقد رأيت أنه من المناسب أن أخصص هذا المقال لمناقشة ما جاء في ذلك التصريح, آملا من واقع معرفتي بالأخ علي أن يتسع صدره لهذه المناقشة الموضوعية لما جاء في تصريحه, انطلاقا من وحدة الهدف وموضوعية الطرح التي أرفع رايتها في كل مشاركاتي المتواضعة.
قال المهندس علي في ذلك التصريح: ''إن الهيئة العامة للاستثمار لا تصدر حاليا أي تراخيص للمقيمين في المملكة'', في تصحيح لما كانت تقوم به الهيئة في بداية عهدها, انطلاقا من رؤيتها في ذلك الحين في تصحيح أوضاع المستثمرين الأجانب في المملكة الذين كانوا يعملون تحت مظلة التستر. وقال: ''إن الهيئة قامت أخيرا بتصحيح هذا التوجه من خلال حصر منح التراخيص للأشخاص الاعتباريين الذين يقدمون إلى المملكة بغرض الاستثمار''. وأقول للأخ المهندس علي إن هذا التوجه، على الرغم من كونه توجها محمودا في تصحيح وضع جرَّ على المملكة كثيرا من المشكلات, إلا أنه أتى متأخرا بعض الشيء, بالنظر إلى حجم المشكلات التي خلقتها الآلية السابقة في نوعية الاستثمارات التي رخصتها الهيئة في تلك الفترة المنقضية, والواقع الأليم الذي أحدثته في تركيبة المناخ الاقتصادي والاستثماري في المملكة. كما أن هذا التصحيح لا يبدو أنه أتى مدعوما بآليات التطبيق المناسبة, بما يمنع ما نعيشه من مشاهدات لممارسات تلتف على هذه الاشتراطات الجديدة, إذ أصبح الإخوة المقيمون يأتون إلى الهيئة بعد أن يعودوا إلى بلدانهم لتكوين تلك الكيانات الاعتبارية التي تشترطها الهيئة, وبعد أن يقوموا باستكمال ''تستيف'' الوثائق والمستندات المطلوبة, بما في ذلك قرائن الملاءة المالية والميزانيات السنوية ودراسات الجدوى وغير ذلك. وأجزم أن المهندس علي يعلم مدى السهولة التي يمكن بها لأي شخص أن يكمل بها ملفه لطلب الترخيص عبر تزييف الحقائق والمستندات, خاصة أن الهيئة لا يمكن لها أن تقوم, حتى لو أرادت, بالتأكد من صحة تلك المستندات والوثائق, أو معاينة واقع تلك الكيانات الاعتبارية في بلدانها, والتأكد إذا ما كانت كيانات حقيقية أم وهمية. كما أن هذا التصحيح لم يعالج جانب النقد في نوعية تلك الاستثمارات وما تضيفه إلى الاقتصاد الوطني, وإذا ما كانت استثمارات اقتصادية ذات قيمة مضافة حقيقية, أم استثمارات خدمية متدنية كل همها شفط موارد المواطنين وتهجيرها إلى الخارج. فما الجديد في أن يقوم عامل أو مهندس في شركة مقاولات بالسفر إلى بلده لتسجيل مؤسسة مقاولات، ثم التقدم بها إلى الهيئة للحصول على ترخيص للنشاط ذاته في المملكة؟ النشاط أخي علي هو محل الاعتراض وليس آلية التسجيل أو خبرة الكيان أو الوثائق التي يحملها التي يمكن التلاعب بها بكل سهولة ويسر. وقد كان الأجدر بالهيئة أن تضع رؤية محددة لمجالات الاستثمار التي يمكن أن تحقق إضافات حقيقية للاقتصاد الوطني, لتكون مرجعا لقبول تلك الأنشطة قبل ترخيصها.
ذكر المهندس علي في تصريحه أيضا، أن المستثمرين الأجانب لا يحجبون الفرص أمام المستثمرين السعوديين, مشيرا إلى أن عدد تراخيص الاستثمار الأجنبي لا يمثل إلا أقل من 1 في المائة من إجمالي عدد السجلات التجارية في المملكة. ويعلم المهندس علي أن عدد السجلات التجارية الذي أشار إليه لا يعكس واقع النشاط التجاري في المملكة, إذ إن كثيرا من هذه السجلات سجلات شكلية غير عاملة, وكثيرا منها مملوك للأشخاص ذاتهم. فكم منا يعلم شخصا أو تاجرا يحمل عددا من السجلات التجارية الرئيسة أو الفرعية؟ وبذلك, تكون النسبة التي أشار إليها الأخ علي غير دقيقة, والواقع يبرز مقدار المنافسة التي يعانيها المستثمرون السعوديون تجاه الأنشطة الاستثمارية الأجنبية, خاصة أن كثيرا من تلك الاستثمارات تعمل في مجالات كانت دوما حكرا على السعوديين, وأصبح المستثمرون الأجانب ينافسونهم فيها. خاصة أن هذه المنافسة لا تتسم بالعدل في ظل ما يتمتع به المستثمرون الأجانب من تسهيلات تقدمها مراكز الخدمة الشاملة في الهيئة, في الوقت الذي يعاني فيه المستثمرون السعوديون الأمرين في إنهاء إجراءات أعمالهم في أروقة الأجهزة الحكومية المختلفة. والمهندس علي عبَّر في تصريحه عن أمنيته أن تقوم مراكز الخدمة الشاملة بخدمة المستثمرين السعوديين والأجانب على حد سواء, إلا أنه علل عدم حصول ذلك بقصور إمكانات تلك المراكز وطاقتها الاستيعابية. وهذا لعمري عذر أقبح من ذنب, واعتراف مبطن بوضع المستثمرين الأجانب موضع الأولوية على المستثمرين السعوديين.
لا أريد أن أحصر النقاش في كل ما ورد في ذلك التصريح, فالقضية التي أطرحها ويطرحها زملائي الكتاب أكبر مما ورد فيه. القضية أخي علي هي في أن الهيئة العامة للاستثمار رفعت راية مهمة واحدة من بين عديد من المهام التي حمَّلها إياها نظامها, وأصبح جل تركيزها على إدارة قضايا الاستثمار الأجنبي, والغوص في تفاصيل الإجراءات والآليات المتعلقة بهذا الجانب, مغفلة المهمة الأسمى المتمثلة في تحسين مناخ الاستثمار في المملكة بشكل مجمل, ومعالجة المشكلات والعقبات التي تواجه المستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء. وأكرر هنا ما ذكرته في مقالي السابق, فقد كان الأجدر بهيئة الاستثمار أن تعمل على صياغة رؤية شاملة وخطة طموحة للنهوض بهذا القطاع الحيوي, ورعاية الاستثمارات المحلية قبل استقطاب الخارجية منها, والعمل على تذليل تلك العقبات وحل تلك المشكلات, بما يؤسس بالمجمل مناخا جاذبا للاستثمار, تكون ثمرته توطين الاستثمارات المحلية وتنميتها من جهة, وتكون نتيجته بالضرورة استقطاب الاستثمارات الخارجية التي تترقبها الهيئة. إذ إن البيئة الاستثمارية التي لا تستطيع استقطاب أهلها ومواطنيها بالدرجة الأولى لا يمكن لها أن تكون جاذبة لغيرهم من الأوطان الأخرى. والحقيقة أنني أجدني أتفق مع الأخ علي في جانب مهم أستشفه بين سطور تصريحه, فموقع الهيئة الحالي المنعزل عن بقية أجهزة الدولة يجعلها غير قادرة على التعاطي مع قضايا القطاع بما يستحقه من شمولية, ودورها المأمول يصطدم بأدوار عديد من الأجهزة الحكومية الأخرى. وقد يكون الحل لهذه المشكلة عبر تأسيس علاقة فاعلة بين الهيئة والمجلس الاقتصادي الأعلى, تكون الهيئة من خلالها ذراعا تنفيذية للمجلس, لتقوم بالعمل على تنفيذ السياسات والاستراتيجيات التي يضعها المجلس, وتتسلح بالصلاحيات والإمكانات اللازمة لتفعيل دورها في رعاية هذا القطاع.
أختم هذه المناقشة بتذكير الأخ علي والإخوة القراء بقضيتين مهمتين تطرقت إليهما في مقالي السابق. الأولى قضية تعارض دور الهيئة الذي اتخذته مع أدوار وسياسات وتشريعات عديد من أجهزة الدولة الأخرى, الأمر الذي جعل الهيئة منفذا سهلا لكثير من المغرضين, الذين ركبوا موجة أنظمة الهيئة ليتجاوزوا أنظمة الجهات الرسمية الأخرى. وكنت قد أوردت في مقالي السابق أمثلة عديدة لهذا الواقع, بما في ذلك تراخيص الأنشطة الاستشارية التي تمنحها الهيئة, وامتيازات الاستقدام التي تتمتع بها الكيانات الأجنبية. والقضية الأخرى هي قضية المدن الاقتصادية التي يجري تطويرها بمفهوم عقاري بحت, الذي قلت فيها إن برنامج المدن الاقتصادية الذي أطلقته الهيئة لا يمكن أن يجد النجاح المأمول إن لم تتبن الهيئة برنامجا للتنمية المتوازنة فيها, يكون أساسه بناء محركات تنموية اقتصادية جاذبة للتوطين, ويكون العنصر العقاري أحد جوانبه وليس جانبه الأوحد. فهل للهيئة أن تسوق لنا تفسيرا لما يعيشه هذا المشروع من تعثر؟