ماذا حققنا من التنمية المتوازنة للمناطق وللحد من زحف سكان القرى إلى المدن؟
منذ فترة طويلة ونحن نسمع عن خطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة أو المتزنة بين مناطق المملكة, وبحيث يكون هناك نوع من التكامل الاقتصادي والاجتماعي. وعلى أساس التنمية المستدامة لمدخرات أو مقومات أو مصادر الثروة في كل منطقة وإعطاء تلك المناطق امتيازا خاصا بها, بحيث لا تنافسها مناطق أخرى. فمثلا إذا كانت المنطقة فيها مقومات سياحية أكثر من غيرها فتتم تنميتها ودعمها اقتصاديا وسياسيا لتكون جهة منشودة لهذا النوع من النشاط الاقتصادي, وبذلك يستقر سكانها في مدنهم وقراهم.
بالطبع لا بد من تنمية متوازنة بين المدن والقرى بحيث لا يهاجر سكان القرى إلى المدن, وذلك عن طريق توفير قواعد اقتصادية لهم في القرية مثل وجود معهد أو كلية أو وجود شركة زراعية وغيرها, ما يضمن فرص العمل لساكنيها, لكن مع مرور هذا الزمن الطويل إلا أننا لم نر أي تقدم يذكر. وما زال هناك عدم اتزان في التنمية وتضارب أو تنافس غير واقعي بين المناطق. وهذا النوع من عدم التوازن له سلبياته الكبيرة على الوطن, فيوما ما ستصبح لدينا فقط منطقة أو مدينة واحدة كبرى ومسيطرة أو محتكرة كل الأنشطة, ما يجعلها تجتذب معظم سكان المملكة في مدينة واحدة. وسيكون تعداد السكان للمدينة أو الكثافة السكانية عالية جدا لتصل إلى عشرات الملايين من البشر.
وتضخم المدن أو ما نراه اليوم في أهم مدننا نذير يؤكد ما سبقتنا إليه تجارب غيرنا بأن نمو المدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات يعد من أكبر وأبرز المشكلات التي تواجه المدن الكبرى في العالم. وهذه الظاهرة معروفة وليست جديدة, بل إنها إحدى قواعد علم الاجتماع التي أكدها هبراماس أحد أكبر علماء الاجتماع في ألمانيا منذ أكثر من 200 سنة في نظريته عن المجتمع الصغير عندما يتحول إلى مجتمع كبير وكيف أن الأخلاقيات والضوابط تتغير وتكثر الانعزالية والأمراض الاجتماعية والنفسية, ولا يعرف الجار جاره, وينتهي دور كبير القرية والأقارب في حل المشكلات العائلية لتتحول إلى الشرطة والقضاء, حتى إن احترام الشباب للكبار من العائلة ينتهي في المدن.
ولعل هذه الأحداث تكون شاهداً على أننا إذا كنا عاجزين عن السيطرة عليها الآن فماذا سيكون حالنا بعد التضخم المتنامي, الذي حتما سيفقد الدولة عملية السيطرة على الجريمة, كما أنه يؤدي إلى تفكك المجتمع وكثرة الفساد الاجتماعي وقلة فرص العيش وتفشي البطالة والجريمة إلى حدود لا تمكن رجال الأمن من السيطرة على مجريات الأمور والأمثلة والتجارب على ذلك دوليا كثيرة. والخلاصة التي نأخذها من تجارب الدول التي سبقتنا أن هذه الأحداث لا تنتهي بهذه السهولة, وأن النمو السكاني المتزايد تنمو معه نسب كبيرة من القضايا الاجتماعية والنفسية التي تؤدي إلى أمراض نفسية واجتماعية وشذوذ وهوس فكري كثير. فلو انتهت أعمال الإرهاب التي نعيشها الآن فإنها جزء لا ينتهي هذه الأحداث الإرهابية المستقبلية التي تولدها مشكلات النمو السكاني الكبير فوق طاقة المدينة.
ومن هذا المنطلق دأبت تلك الدول على إيجاد واستحداث حلول ونظريات تخطيطية مناسبة للحد من نمو المدن العشوائي, ومن هذه النظريات تأتي نظريه ''مناطق النمو العكسي'' Polarization Reversal و''بؤر النمو خارج المدن'' GROWTH POLE THEORY, وأبرز مثال طبق لها في العاصمة البرازيلية مدينة برازيليا ومدن الحدائق حول لندن. وهذه النظريات ربما لا تناسب مجتمعنا, إنما تساعد على تدارك النمو قبل أن يخرج الأمر من أيدينا وأن نحاول أن نستفيد, ولو قليلا, من تاريخ وتجارب المدن التي سبقتنا وتورطت في هذا المجال.
لا شك أن المشاريع العملاقة للمدن الصناعية والمعرفية والمالية التي أخذت تنتشر سيكون لها دورها الكبير في تحقيق كثير من معدلات النمو للاقتصاد الوطني إذا ما كانت مدروسة ومنسقا لها, لكنها لم يتم التنسيق في تخطيطها ومواقعها مع خطط وزارة الشؤون البلدية والقروية, بل إنها تعارضت معها. وعلى قدر ما نحن معجبون بها إلا أننا نتساءل عن جديتها ومدى نجاحها لأنها ضربت بعملية التخطيط والتنسيق ومجهودات الجهات الأخرى والمسؤولين والمهنيين الوطنيين عرض الحائط. وكأنما هي محاولات جريئة تبحث عن أقصر الطرق للبروز بغض النظر عن مخاطرها. طبعا هذه المدن لم تقدم أي جديد أو ابتكار, بل هي عملية تقليد أعمى لمدن في دول فشلت قبلنا.. فلماذا لا نتعظ, أو على الأقل نستفيد من تجاربهم ونتبناها بطريقة علمية ومهنية وتخطيطية سليمة؟ فرصة نجاح أي من تلك المدن هي فرصة المقامرين في السوق أو ضربة حظ! حيث إن تلك المدن أغفلت أهم العوامل الأولية التخطيطية لاختيار المواقع والتنسيقية الأساسية لتهيئة الأيدي والكفاءات والمؤسسات الوطنية الخليجية لتطوير وتنفيذ تلك المدن وإدارتها. والخطر الكبير هو أن فشل تلك المدن لن يعود على المستثمرين فيها فقط, بل سيهز اقتصادنا, وفي النهاية سيعود علينا جميعا وعلى مستقبل الأجيال القادمة بالخيبة وسيهز ثقة العالم باقتصادنا الوطني, كما فشلت النمور الآسيوية وغيرها من التجارب الأخرى. ومع أن تلك المدن لن تنمو في ليلة وضحاها, بل سيستغرق بناؤها عقودا من الزمن, وربما لا يكتب لبعضها النجاح أو ستتقلص إلا أنني أرى أننا أهملنا كثيرا من الأولويات لنجاح تلك المدن.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا حققنا للتنمية المتوازنة للمناطق؟ وهل نمو المدن فوق طاقتها مطلب حضاري نسمو إليه, أم أن التمهل مطلوب؟ وذلك باتباع سياسة التنمية المتزنة وإعطاء المدن والقرى الأخرى دورها بجعلها مناطق جذب لتقليل زحف السكان من القرى إلى المدن, ومحاولة المحافظة على حجم معين لكل مدينة بجعلها متميزة أو تخصصية لجذب تخصصات معينة من الاقتصاد والسكان. وذلك عن طريق توزيع القواعد الاقتصادية التي تفرز الوظائف والخدمات لتشجيع الهجرة مرة أخرى إلى المدن المجاورة (نظرية IN Put-outPut Model).
إن النمو الحضري والسكاني من أهم المشكلات التي تواجه الشعوب, ويجب أن نحاول التحكم فيه قبل أن يلتهمنا. النمو يحتاج إلى مقومات وتكاليف أبدية تضمن العيش الشريف للأجيال القادمة, لذلك فإن ما نسمعه عن نمو مدينة الرياض سكانيا, الذي نعرف أنه سيتضاعف قريبا, يجب أن يتواكب مع مقومات المدينة وما يمكن أن تقدمه مستقبلاً من ثروات مائية وزراعية واقتصادية لسكانها على المدى البعيد.. فماذا أعددنا للمشكلات المستقبلية الحتمية من جراء هذا النمو؟ ودون معرفة حجم ومدى هذه المقومات ومدى بقائها للعصور القادمة فإنه من الأفضل الوقوف عند حد نموذجي معين من النمو (وهذا الحد أيضاً يحتاج إلى مقومات ليست سهلة), ومحاولة تحويل النمو المستقبلي إلى المدن المجاورة وتقليل نسبة الهجرة من القرى إلى المدينة.