معارك إمبريالية لا إنسانية للعالم الجديد
وبعد نهاية الحقب الزمنية التي كانت تتميز بتبني العقل الغربي منطق الغزوات العسكرية المادية (كما هو الحال مع مرحلة استعمار الدول العربية مثلا)، انتقل منطق الغزو اليوم، إلى عوالم جديدة، تأسس إما عبر ''غزو ليّن''، يتم من خلال الهجوم التقني والمعلوماتي وعبر القنوات الفضائية والشبكات الإلكترونية، وإما عبر غزو بيولوجي علمي صرف، يخضع لمنطق الاحتكار الأقصى لعقل الأنا: ''أنا الأفضل، أنا الأحسن، أنا الأهم، أنا الأساس، أنا المرجع، أنا الموجود، أنا الأسمى''، بتعبير نبيل حاجي نائف، الكاتب والباحث السوري في العلوم الإنسانية.
هذا عين ما نطلع عليه اليوم في مجال علوم البيولوجيا، وطبيعة تعامل الناطقين باسم العقل الغربي، في شقه العلمي، مع الآخر، بالصيغة التي نطلع عليها مثلا في التعامل مع ''تكنولوجيا البذور''. ويكفي تأمل دلالات لائحة من المبادرات الغربية في هذا الصدد، التي تُكرّس بشكل أو بآخر، إصرار العقل الغربي على التأسيس لمعارك إمبريالية جديدة، تختلف في الشكل مع المعارك القديمة، لكنها تتطابق في المضمون مع فلسفة الغزو، والمؤسسة على منطق الانتصار الحتمي ''للنزعة القصوى للأنا''. ونورد من بين الأمثلة، نموذجين اثنين:
ـ كشفت الحكومة النرويجيّة في نيسان (أبريل) 2007 عن التصميم النهائي لما سُمّي ''قبو القيامة''، الذي سيحوي عيّنات من البذور التي يقع تجميعها من كلّ أصقاع العالم، على أن يقع هذا القبو في جزيرة نائية في القطب الشمالي، وذلك تحسّبا لكارثة طبيعيّة أو وباء أو حرب نوويّة تأتي على المحاصيل الزراعيّة وعلى البذور!
ـ توصل القائمون على بنك البذور في بريطانيا، ويوجد تحت اسم ''بنك سفينة نوح الغذائي''، إلى الحصول على البذرة رقم مليار، وجمعت في هذا البنك مختلف أنواع البذور والنباتات والأصول من كل أصقاع العالم، كما يخطط المسؤولون عن هذا البنك لخزن 25 في المائة من السلالات النباتية في العالم وذلك بحلول سنة 2010!
والمثير في هذا الصدد، أنه في الوقت الذي تُطبّل فيه الشركات العالميّة للبذور المحوّرة جينيّا (وهي للمفارقة الصارخة، تلقى صدى ''محترما'' في أوساط بعض الخبراء من بلدان الجنوب ومن بلداننا العربيّة)، تعمل البلدان المصنّعة على تجميع البذور الطبيعيّة الأصليّة وتبني بنوكا لها. وما يخدم هذا التناقض، ذلك الهجوم الضاري الذي تقوده بعض الشركات العالميّة تحت غطاء تطوير الزراعة في إفريقيا، وهدفه الأول و''الأسمى'' الاستحواذ على النوعيّات النباتيّة والبذور وربّما تحويرها جينيّا، ومن ثمّ تحويلها إلى براءات وملكية خاصة وحرمان مالكيها الأصليّين منها.
وما يخدم هذا التناقض أيضا، أن مُعظم بلدان الجنوب رهنت حاضرها ومستقبلها، خصوصا في ظرف اتّسم بهجوم كاسح لشركات البذور، فيما يُؤسِّس عمليا لحروب غذاء مستقبلية قادمة في الطريق، تحت شعار أحد أكثر وجوه الإمبريالية المعاصرة: الاستعمار التكنولوجي دون سواه. وهو استعمار لا تتوقف سيطرته على التكنولوجيات المألوفة فحسب، لكنها تمتد إلى مصادر الحياة الأساسية أيضا، وفي مقدمة هذه المصادر، ''تكنولوجيا البذور''.
ولمن يبدو له أن الحديث عن حروب مستقبلية مؤسسة على الغزو البيولوجي، فعليه الاطلاع على لائحة من الأدبيات والدراسات العلمية الرصينة الصادرة في الغرب بالتحديد، حتى نترك الأدبيات والدراسات الصادرة في المنطقة العربية (على قلتها طبعا في هذا الموضوع)، ويكفي استحضار الدور التنويري الكبير الذي تقوم به مجلة ''ذي إيكولوجيست'' The ecologist البريطانية المرموقة، بنسخها المترجمة الثماني (تعد فصلية ''بدائل'' اللبنانية، النسخة العربية من المجلة)، كما أنها تعد مجلة رائدة في الفكر الإيكولوجي العالمي.
ويرى جولدسميت، وهو مؤسس المجلة (سنة 1961)، ومؤسس علم البيئة السياسي، ومؤلف كتاب ''محاكمة العولمة'' (الذي عُرف عنه مناهضة إنشاء المراكز النووية، وتنظيم حملات لمنع القضاء على الغابات) في أحد أعماله المرجعية عن علم البيئة، أن عولمة التجارة الحرة اليوم تُجسِّد استمرارا للتنمية القديمة، فالاستعمار يجدد شبابه على الدوام. بحيث لم يجر أي تغيير في الطرق الاستعمارية بشأن استخدام الأرض وتوفير الغذاء. وأضاف أن الاستعمار لم يمت بعد ''إزالته'' بل جدّد شبابه بطرق حديثة أكثر فاعلية. فما زال ثلثا المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة إلى بلدان الجنوب، تأخذ شكل المساعدات الأمنية. كما فٌرضت ''التنمية الاقتصادية'' على بلدان الجنوب بكل أساليب الاستعمار، وبالتدخل العسكري، ودعم انقلابات الجنرالات. وهناك، للمفارقة السوداء، قسم آخر من المساعدات عبارة عن مساعدة عينية من الحبوب ـ بيت القصيد ـ هدفها أمني أيضا، حسب تأكيد نائب الرئيس الأمريكي هوير هامفري، الذي أقرّ صراحة بما يلي: ''عندما تسعى إلى إخضاع الناس وتعمل على أن يتعاونوا معك، يبدو لي أن التبعية الغذائية تفعل العجائب''!
وليست مصادفة أن يضيف الرجل، في آخر دراساته العلمية الرصينة المترجمة إلى اللغة العربية، وجاءت في العدد العاشر من فصلية ''بدائل'' (ضمن ملف قيّم عن الأزمة الغذائية، وصدر في صيف 2009)، أن ''علاج أزمة الغذاء في العالم لا يتم عبر توزيع البذور والأسمدة على المزارعين''، مُدعما مبحثه بلائحة من المراجع العلمية، خلُصت بعضها إلى أن ''البذور المحلية التي خبرها المزارعون جيلا بعد جيل، تُعتبر ثروة حيوية وضمانا للسيادة الغذائية، وهذا رأي وتنظير تتجاهله بالكلية الشركات متعددة الجنسيات التي تتاجر في البذور''. أما الأخطر في دراسة جولدسميت، فيكمن في لائحة الهيئات والمؤسسات المانحة لترويج البذور، من الاتحاد الأوروبي (الذي منح العام الماضي، ما قدره 2.5 مليار دولار لشراء البذور والأسمدة بالاقتراض)، إلى الصليب الأحمر (الذي يوزع أسمدة على 21 ألف مزارع في ساحل العاج و20 ألفا في غينيا بيساو و36 ألفا في السودان)، مرورا بالبنك الدولي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، ومنظمة الفاو FAO، ومؤسسة ''غاتر'' و''كاثوليك روليف سيرفيس'' CRS، حتى مؤسسة ''كونسرن'' الأيرلندية، التي اشترت السنة الماضية 70 طنا من البذور لتوزيعها في إثيوبيا!
فهل يُعقل أن تكون مُجمل هذه الأرقام، ترجمة حقيقية للسخاء الغربي، أم أنها تُترجم معالم غزو بيولوجي غربي قادم في الطريق؟ وإلا، كيف نفسر مبادرات بعض الهيئات الدولية الإنسانية التي اتخذت لنفسها طابعا عموميا، لكنها انخرطت في تحالفات مشبوهة تثير علامات الاستفهام أكثر من علامات الاطمئنان، من قبيل ''التحالف من أجل ثورة خضراء في إفريقيا'' AGRA، أو''الفريق الاستشاري للأبحاث الزراعية الدولية'' GCRAI، التي دخلت ضمن برامج تمويلية، في تحالف وطيد مع الشركات متعددة الجنسيات، وأسهمت في مشاريع تعميم البذور المعدلة وراثيا (أو جينيا) التي تنتجها هذه الشركات.
أما سوزان جورج، وهي باحثة وكاتبة أمريكية تقيم في فرنسا، وترأس حاليا معهد ''ترانس ناسيونال'' TNI، الذي يُعنى بالعلاقات بين الشمال والجنوب، ومؤلفة كتاب قيّم للغاية يحمل عنوان: ''كيف يموت النصف الآخر من العالم''، فترى بدورها في مبحث ''ما يعيشه الشرق الأوسط، سيناريو مرسوم مسبقا'' أن الغيرية والأخلاق ليس لهما أي اعتبار داخل مجالس الشركات الكبرى، التي تُملي إرادتها على الحكومات والمؤسسات الدولية، بل يحكمها فقط قانون الربح والثراء ووضع اليد، حتى لو أدى ذلك إلى البطالة والمجاعات والحروب المنظمة، بما فيها حروب الإبادة''، وتضيف أن هذا التقييم (الغربي الصرف، على اعتبار أنها باحثة أمريكية مقيمة في عاصمة الأنوار الغربية)، ''ليس من باب التحريض والمغالاة، ولا ينضوي تحت نظرية المؤامرة، بل يقوم على معلومات حول ما يجري في أروقة هذه الشركات، والتقارير السرية التي يتم تداولها في الخفاء. فقد استنتج الأغنياء والأقوياء على ما يبدو، أن مئات الملايين من البشر في العالم هم اليوم فائضون عن الحاجة: أي أنهم غير مدرّون للأرباح؛ ولا يسهمون في الإنتاج الرأسمالي، ولا يشاركون بالتالي في الاستهلاك، إنهم إذا عبء على الاقتصاد، فلا بد من التخلص منهم''.
نأتي لشهادة صادمة، صدرت عن ناشطة هندية شهيرة، وتوجز بامتياز أحقية الحديث عن المعارك الإمبريالية الجديدة المؤسسة على خيار ''الغزو البيولوجي''، حيث اعتبرت فاندانا شيفا أنه أصبح ''ضروريا اليوم نقض وفضح تصور كلاسيكي شائع عن العولمة، الذي يُروج لها كما لو كانت عملية تطور طبيعية وحتمية تؤدي إلى النمو والرفاهية. وكون عديدا ممن يقفون بجانب المساواة والتضامن في دول الشمال يساندون العولمة، معتقدين أنها ستسمح لشعوب الجنوب بالانضمام إلى تلك القرية الكونية. ومن بين الأرقام المهولة التي نطلع عليها في دراسة شيفا كون ''أكثر من ألفي فلاح هندي انتحروا بسبب وطأة الديون لشركات البذور المهجنة والمبيدات''!
وما يُغذي هذا الرقم الصادم، أنه وقع خلال العقود التي تلت الحرب العالميّة الثانية، إهمال البذور الأصلية مقابل الترويج للبذور المهجّنة التي تمتلكها الشركات متعدّدة الجنسيّة, وهي بذور توفّر محصولا عاليا, لكن بصفة وقتيّة وتستنزف مخزون المياه وتتطلّب كمّيّات هائلة من الأسمدة والمبيدات (ومعلوم أن من خصائص البذور الأصليّة تنوّعها وعدم استهلاكها كمّيّات هائلة من الماء) بما يدفع المزارعين اليوم في بلدان الجنوب (ومنها الهند، النموذج سالف الذكر، وأيضا أغلبية الدول العربية) إلى شراء بذورهم كلّ سنة من بعض التجّار المحلّيّين المكلّفين بترويج البذور المهجّنة والمستوردة. والمستفز في الأمر، أن القارة الإفريقية مثلا، وبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، تمثّل مخزونا هائلا من النباتات والبذور، لكن مراكز القرار تغافلت عن ذلك، وفضّلت التعامل مع شركات البذور العالميّة التي تصدّر البذور المهجّنة، لولا أن مبادرات صغار ومتوسّطي المزارعين ساهمت في الحفاظ على نوعياتهم من البذور.
وبالنتيجة، أصبح جليّا أن تحدّي البذور، يعتبر التحدّي الأكبر للقرن الحادي والعشرين، ولا يخرج عن تحديات موازية ومتشابكة طبعا، وهي التحدّي البيئي وتحدّي المياه، بإقرار أهل الشرق والغرب على حد سواء، وليس بإقرار لوبيات الشركات متعدّدة الجنسيّة المتحكمة في ''تكنولوجيا البذور''، والمهندسة لغزو بيولوجي قادم لا محالة، أصبح، في رأي الناشط الفرنسي الشهير سيرج لاتوش، مؤلف كتاب ''تغريب العالم''، ''يُجسّد تهديدا للطبيعة ولكل ما هو طبيعي''، مستحضرا في هذا الصدد مآسي غابة أمازونيا، نتيجة ما تعرضت له من ''ممارسات همجية تجسدت في حرائق، واقتلاع للغابات، وتنقيب عن المعادن، واستصلاح للأراضي، وما ترتب على كل هذا من إبادة للهنود، ومن اختفاء أنواع من الحيوانات والنباتات، ليتمكن كبار الفلاحين في الغرب الإمبريالي من إنتاج مزيد من الثيران، ويتمكن الصغار من الاستمرار على قيد الحياة''، وهو ما يُعد بحق ''عملية اقتتال حقيقية بين الناس والشعوب، على حساب الطبيعة''. (واشتهر سيرج لاتوش للتذكير بجدية أعماله النقدية تجاه عملية التنمية القائمة على معدلات النمو، سواء كما طبقت في الشمال أو الجنوب).
وأمام هذا السيناريو الذي كان إلى وقت قريب يُروج فقط في أفلام الكارتون، يجد صناع القرار في المنطقة العربية والقارة الإفريقيّة أنفسهم أمام مفترق طرق، ليس من باب المواجهة المفصلية، وإنما من باب تخفيف الأضرار المتوقعة، بالنظر إلى حجم التناقضات القائمة اليوم بين مستوى التأسيس الغربي لمعالم هذا الغزو البيولوجي، ودرجات وعي المسؤولين به، إلى درجة حديث بعض أبناء الذات العربية عن ''سيناريوهات خيالية'' أو ''مؤامراتية'':
ـ إما تكريس خيار إبقاء الوضع على ما هو عليه، أي إطالة أمد المواجهة القادمة، وخدمة مخططات الغير في المضمار. ـ وإما تأسيس بنوك لبذورها وأصولها النباتيّة، ليس فقط من أجل مجابهة تحدّيّات الأمن الغذائي، لكن أيضا للحفاظ على التوازن البيئي الزراعي وإيقاف النزيف الذي يهدّده من جراء الزراعات التي تعتمد البذور المهجّنة والمستوردة التي تستنزف مصادر المياه وتتطلّب كمّيّات كبيرة من الأسمدة والمبيدات.
ونعتقد أن من بين أهم المآزق التي تعشعش في الجهاز المفاهيمي للعقل الغربي المعاصر، عدم اعترافه بأنه استعلائي ومركزي النزوع، فدياناته تثبت ذلك بامتياز، حيث تعد الإنسان نهاية للكون، ومتفوقا على باقي الأنواع الحية الأخرى، كون قدراته الدماغية أكثر تطورا، ما يؤهله للجلوس على قمة هرم العالم الحي، بتعبير بول بالطا. وعلى هذا الأساس فهو يختزل وسطه الذي يعيش فيه في وظيفة وحيدة تتجلى في الهيمنة على الكون من أجل إخضاعه لمصلحته وبفضل قدراته العقلية، أصبح ''سيد هذا العالم'' حسب تعبير ديكارت. وواضح أن هذا التصور العرقي، أتاح لتطور المجتمعات للإنسان الغربي تبرير مشاريعه المهيمنة، لكنه لم يؤثر بأي حال من الأحوال في سياسته تجاه ''المتوحشين''، فهؤلاء لم يعاملوا في أحسن الأحوال أكثر من كونهم يدا عاملة حقيرة، ليستمر المجتمع الغربي في اعتقاده أنه يُجسد مصير المجتمعات، مع فارق وحيد هو أن الاهتمام أصبح الآن مركزا على الوجه الاقتصادي والتقني للتطور الإنساني، والفارق الأكبر اليوم، يكمن في الرهان على خدمات الغزو البيولوجي، لتكريس عقلية الاستعلاء والمركزية لدى صانع القرار في الغرب.