تجربة الأندية الطلابية السعودية في الخارج جديرة بأن تنتقل للجامعات

حينما كنت طالبا جامعيا قبل عقدين من الزمن لم أنجح في الانتخابات الطلابية لرئاسة نادي إدارة الأعمال في الجامعة، لأنني لم أدرك أهمية جمع أصوات المؤيدين، ومداخل اللعبة الانتخابية، ومجاملة من الناخبين تم ترشيحي بالإجماع نائباً للرئيس، فتقلدت أول منصب ديمقراطي في حياتي. كانت تلك التجربة الأولى لي التي أخوض فيها لعبة العملية الديمقراطية التي لم تستمر طويلاً في حياتي الجامعية المحلية لتوقفها. ثم كانت التجربة الثانية في الخارج, وذلك على صعيد الجامعة والأندية السعودية, التي كانت أكثر إثارة ونضجا، وأضافت إلى تأهيلي العلمي ما لم تضفه عشرات المقررات في مسيرتي التعليمية.
أثار الحديث عن هذا الموضوع زيارتي لبعض الأندية السعودية الطلابية في الخارج، حيث تابعت باهتمام كيفية تعامل الطلاب السعوديين مع تلك الظاهرة الديمقراطية على مستوى الجامعات التي يدرسون فيها وعلى مستوى الأندية الطلابية. وكان من أبرز المشاهدات الحاضرة لدى جل الطلاب هي ضعف مشاركة طلابنا في التجارب الديمقراطية والانتخابية في الجامعات، فضلاً عن غياب الإدراك السلوكي لثقافة الانتخابات وفقدان الوعي الحضاري للحرية وقبول مبدأ الاختلاف ومدى حدود الخلاف في تجارب الأندية، وحزنت كثيراً عندما رويت لي قصص تصل إلى حد الاعتداء الجسدي والكيد القانوني والتفرقة العنصرية, التي تعززها تلك الجهالة الكبيرة للمعاني الحضارية لمفهوم الديمقراطية. وأكاد أجزم بأن أحد الأسباب الرئيسة لذلك أن طلابنا لم يعتادوا على ذلك، بل لم يمارسوه في جامعاتنا، ولم يشاهدوه في ممارساتنا. تجربة الانتخابات الطلابية للأندية السعودية في الخارج مع كل ما يصاحبها من غياب الممارسة المثالية للانتخابات, تجربة مفيدة للغاية. وممارسة - على تواضعها ـــ أضافت أبعاداً اجتماعية وثقافية كبيرة للمبتعثين. وأبرزت قادة عادوا وسيعودون إلى وطنهم ـــ إن شاء الله ـــ بحماس وطموح كبيرين للإسهام في رقي الوطن ورفعته.
إنني أعتقد أن تطوير التعليم العالي يجب أن يشمل آليات التأهيل السلوكي للطالب عبر الممارسة الفعلية للتجربة الديمقراطية المرشدة. وبعيداً عن الجدل فيما إذا كانت شكلاً من أشكال الشورى الشرعية أو جزءا منها، فالممارسة الديمقراطية علامة بارزة وعرف منتشر في كل الجامعات العالمية المرموقة التي ننشد محاكاتها. وهي الطريق العملي لترسيخ مفهوم الحوار الإيجابي وقبول الرأي الآخر وتوسعة الأفق؛ لننظر إلى الأمور من زوايا ورؤى مختلفة. والانتخابات الطلابية هي إحدى الأدوات التطبيقية للمبادئ الإيجابية للديمقراطية. فمن خلالها تترسخ معاني المشاركة في اتخاذ القرار, وأن الطالب له دور يمارسه، وله رأي ووسائل معتبرة للتعبير عنه، وهناك نظام ولائحة تكفلان وتنظمان هذه المشاركة. فيمر القرار بمراحل قبل اتخاذه، إلى درجة أن يشترك في صياغته ومناقشته وتعديله أو إلغائه أكثر من شخص وأكثر من مسؤول. ومن خلالها يتعايش الطالب مع الواقع القائم على أساس حكم الأغلبية بكل أبعاده وممارساته الحقة أحياناً والمجحفة في أحايين أخرى, علماً بأن الأطروحات النظرية, كما يصفها الكاتب السياسي الشهير تشارلس بلاتبيرج في كتابه "من التعددية إلى سياسات الوطنية"، تقرن حكم الأغلبية بحقوق الفرد والأقلية. فجميع الديمقراطيات، التي تحترم إرادة الأغلبية، تحمي في الآن ذاته وبالحماس ذاته الحقوق الأساسية للفرد وللأقليات.
ومن خلال الممارسات الديمقراطية يتعلم الطلاب أن المساواة في الحقوق والتساوي في الفرص مطلب, وهو الأصل في التعامل مع الآخرين, فبالجدارة والكفاءة تتم المفاضلة بين الآخرين وتقديم شخص على آخر. وهو أمر يصعب تحقيقه دون المرور بحقبة طويلة من التجارب والإخفاقات قادرة على نقلنا من الشخصنة والتمييز بشتى صورة إلى الموضوعية والتجرد. والوصول في ممارسات الطلاب لهذه الغاية في حد ذاته إنجاز حضاري ورقي كبير بمجتمع التعليم الجامعي وبيئته. ومن خلالها يتدرب الطلاب على القيادة للمجموعات والتعلم من الخسارة قبل الاستفادة من الفوز والنجاح. وتحضر حينها أهمية العمل المنظم والتخطيط المسبق ووضع البرامج والمقترحات الانتخابية المرسخة لمصلحة الجميع والخادمة لمطالبهم وطموحهم.
وما يبعث الأمل في إعادة هذه الممارسة الحضارية الراقية للمجتمع الجامعي نجاح التجربة في المجالس البلدية، وممارستها في الأندية الرياضية، واعتمادها منذ زمن في الجمعيات المهنية والعلمية المنتشرة في كل الوطن. الديمقراطية الطلابية المطلوبة، تعني الحرية في التعبير والمشاركة العامة والكرامة والمساواة في الحقوق والفرص لتصبح أخلاقيات عامة، تنتقل من أروقة الجامعات إلى الممارسات الحياتية في العلاقات بين الناس. إنها تصبح عندئذٍ اعترافا بالطرف الآخر، والحوار معه واحترام آرائه وحقوقه وشخصيته ضمن النسق العام للحياة، الذي يصون حقوق الأفراد والجماعات ومصالحهم، تحت سقف مصلحة الوطن, التي هي فوق كل مصلحة، وتحت سقف النظام العام, الذي يضع الحدّ الفاصل بين حرية الفرد وحقوقه، ومصلحة المجتمع والحقوق الوطنية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي