صراعات كلامية.. وحكمة صينية

الصين كما هو معلوم تنتمي لمجتمعات الشرق الذي يمتلك تاريخا عريقا في ادخار المال، حيث يعرف عن الصينيين أنهم أكثر الشعوب ادخارا للمال في العالم، وهو الأمر الذي لا يعجب الضفة الغربية من العالم التي بدأت تستهدف الصين منذ وقت غير قصير بجملة من النصائح أهمها تغيير السلوك الاجتماعي والاقتصادي للشعب الملياري.
المفارقة العجيبة أنه من ضمن النصائح الأمريكية لعودة الانتعاش إلى اقتصاد العالم أن تزيد أمريكا من مستويات الادخار ,حتى على مستوى الأفراد المعروف عنهم الصرف على الفاضي والمليان.
أما فيما يتعلق بالشق الآخر من النصيحة الأمريكية، فإنه على الصين كدولة أن تزيد من إنفاقها الحكومي وأن تبذل جهودا أكبر لتشجيع مواطنيها على صرف نقودهم في البضائع الاستهلاكية. رغم أن العادات الاجتماعية هناك غالبا ما تروج لمفاهيم الادخار وليس الإنفاق.
وتشير البيانات القادمة من المؤسسات العالمية أن على الصين أن تعزز من مستويات الاستهلاك المحلي أي أن تزيد من الحوافز لتشجع مواطنيها على شراء السيارات والسلع المعمرة وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية. لكن الوقائع لا تزال تعكس استمرار ارتفاع مستويات ادخار الأسر في الصين وتزيد بمراحل على بيانات الاستهلاك. وأشارت الأرقام إلى تفوق ادخار أسر الفلاحين على الأسر الحضرية أو التي تعيش في المدن. تبرير ذلك يعود إلى أن تعرض الأفراد في المناطق الزراعية والنائية, لموجات الترويج الإعلاني تبقى متواضعة. هذا إضافة إلى الإجراءات الحكومية الصارمة والمتشددة حيال منع نزوح الأسر الريفية باتجاه المدن.
هذا ينقلنا إلى الانتقادات التي تبديها أمريكا ومؤسستا النقد والبنك الدولي من أنه على الصين أن تخفف من إجراءاتها التقييدية لحركة السكان لكي ينتقلوا إلى المدن، وبالتالي سيسهمون في زيادة معدلات الاستهلاك للبضائع والسلع وتخفيف الدعم الحكومي للكثير من المزروعات وتركها لحركة السوق الحرة. ( لكن ما لم تراعه تلك الانتقادات هو من سيطعم الصينينيين إذا انتقلت الأغلبية للمدن وتركت الأراضي الزراعية جرداء) .
وبما أن التقارير الاقتصادية الغربية تستهجن ما تصفه «بالادخار المفرط» لكل من الحكومة والعائلات الصينية الذي تعده قد وصل إلى مراحل خطرة مما يتوجب إجراءات سريعة للحل. فقد وجدت أنه من المستحسن أن تغير لهجتها ولا تعود تطلب من الصينيين أن يزيدوا من استهلاكهم,على العكس تحولت المطالبات إلى أن حاجة الصين ليس بان تستهلك أكثر، بل بأن تستثمر بشكل مكثف . فالاستثمار الأعلى، خاصةً في البنية التحتية، كما يؤكدون، لن يخفض فقط إضافيات الحساب الجاري، بل ويعزز النمو ومستويات المعيشة أيضاً، و ستساعد الطرق والسكك الحديد الأفضل الفلاحين في إيصال منتجاتهم إلى المدن وتمكِّن المصنّعين من تصدير سلعهم إلى الخارج، ويمكن للماء النظيف والرعاية الصحية أن يرفعا من نوعية الرأسمال البشري، وبذلك ترتفع إنتاجية العمّال.
لكن هناك أمر بدأ يتغلغل في معادلة العمل على الأراضي الصينية وهو أن الحكومة تتجه تدريجيا لإجبار الشركات لزيادة أجور العمال لديها بمقدار الضعف بعد تسجيل حالات من الانتحار لبعض العمال في مصانع تكنولوجية تابعة لشركات أجنبية، وهو الأمر الذي بدأ يقلق الكثير من الشركات العالمية التي نقلت أعمالها للصين طمعا برخص الأجور، وهدد بعضها أنه سيفكر بنقل أعماله لبلدان أخرى باعتبار أن «الكم» الرخيص التكلفة, كان المحرض الأول لاختياره الصين . لكن يبدو أن الأمور المستقبلية سترجح كفة الكيف والكفاءة ولو بتكلفة أعلى.
قد تبقى الصراعات بين الأطراف المعنية على مستوى النصائح الكلامية في هذه المرحلة، وقد ترتفع الأصوات أحيانا، ولكن قد يكون من الصعب أن تتغير عادات الصينيين في أمد منظور، نظرا لتمسكهم بتقاليد أسلافهم الذين أشاروا في حكمتهم إلى أنه:
«إذا لم تنظم مالك لن تحقق مالا جديدا».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي