رحم الله الدكتور المطرودي رحمة واسعة .. فقد كان خلقا إسلاميا يمشي على الأرض
"إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيرا منها .. اللهم تغمده بواسع رحمتك وأسكنه فسيح جناتك، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم احشره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، اللهم ألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وأجرهم في مصيبتهم واخلفهم خيرا منها..
كلمات أخذت أرددها مرارا وتكرارا بعفوية وتلقائية، بحزن شديد، وأسى عميق فور سماعي خبر وفاة الأستاذ الفاضل الحبيب والأخ العزيز الكريم الدكتور/ عبد الرحمن المطرودي – وكيل الوزارة لشؤون الأوقاف – وانسابت دموعي بغزارة لتمتزج بحزني العميق، ومصابي الجلل في فقد هذا الأنموذج الإنساني النبيل، الذي قل وندر أن يوجد في زماننا هذا، من النبل ودماثة الخلق ولين الجانب ونقاء السريرة والسعادة بقضائها لهم وكظم الغيظ والعفو عمن أساء له، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا أبا مرام لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا.. "إنا لله وإنا إليه راجعون"..
وإن من أعظم أنواع الفقد على النفوس قسوة، وأكثرها على الأوطان لوعة وأثرا فقد العلماء الربانيين والأئمة المصلحين والرجال القدوة العاملين المخلصين، الذين يخدمون الوطن والدين، وما ذاك إلا لأن في ذهابهم رزية وفقدهم مصيبة وغيابهم ثلمة في الوطن والدين لا تسد ولا تعوض إلا بعد حين، فبناء العلماء المخلصين، والرجال لا يتم إلا عبر العقود والسنين.
وعزاؤنا في فقيدنا العزيز الغالي الدكتور المطرودي أن تلك سنة الله في خلقه، لا ينفك عنها أحد بحال من الأحوال ولا يشذ عنها مخلوق كائنا من كان في أي زمان ومكان، وإن من سنته في خلقه كذلك أن كثيرا من الناس يأتون إلى هذه الدنيا ويعمرون فيها ثم يذهبون دون أن يكون لهم شيء يذكر أو أثر يحمد أو محبة في قلوب العباد وإن قلة من الناس ممن اصطفاهم الله من خلقه واجتباهم من عباده هم من يتركون في قلوب العباد آثارا لا تنسى وعلامات لا تمحى وبصمات من المحبة حفروها بحسن أخلاقهم ونقاء سريرتهم وصفاء نفوسهم وبشاشة وجوههم ولين طباعهم وحبهم الخير للجميع، فلم يسعوا الناس بأموالهم ونفوذهم وجاههم ولكن وسعوهم بقلوبهم وسعة صدورهم ورحابة نفوسهم وحسن أخلاقهم، وأشهد الله العظيم أن الدكتور المطرودي – رحمه الله – كان من هؤلاء، فقد وسع الناس ونال حبهم ومودتهم وتقديرهم وتوقيرهم له من خلال تحليه بتلك الصفات الكريمة، والأخلاق العظيمة، ولا غرو في ذلك فهي في حقيقتها أخلاق الإسلام العظيمة التي أمر الله بها وامتدح رسوله صلى الله عليه وسلم بها فقال: (إنك لعلى خلق عظيم) والتي يرفع الله بها قدر صاحبها إلى درجة لا يبلغها الصائم القائم، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تثقل موازين صاحبها يوم القيامة بعظيم الأجر وجزيل الثواب، فضلا عن نواله محبة الله، وإشاعة تلك المحبة في قلوب العباد، فإن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبوه، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء تكتب له المحبة في الأرض وقد ترجم الدكتور المطرودي – رحمه الله – كل تلك الأخلاق العظيمة والسجايا الكريمة إلى سلوك عملي على الأرض، أشاعه في كل من حوله من الناس صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، وفي كل من له به أدنى علاقة فأنطق الله ألسنتهم بذلك وهم شهود الله في الأرض فشهدوا بذلك في حياته وبعد مماته، وقد كنت شاهدا على ذلك لسنوات طويلة، سواء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أو في وزارة الشؤون الإسلامية، شهادة معايشة وملازمة، وعن علاقة وثيقة، وقرب شديد، فقد كنت ملازما له في العمل لسنوات طويلة ولي على ذلك شواهد كثيرة يطول المقام لذكرها ولكني أذكر منها في هذا المقام رؤوس أقلام ونماذج قليلة كشهادة حق مني بذلك وفاء لأفضاله علي وعلى جميع من كانوا حوله وعملوا معه، وذكر لبعض مآثره وسجاياه فهو ليس فقيد أسرته وذويه فقط بل هو فقيد الوطن والعمل الإسلامي، فقد كان – رحمه الله – ركنا ركينا من أركان العمل الوقفي في المملكة والعالم الإسلامي وعلما بارزا من أعلام المراكز الإسلامية في الخارج وملتقيات خادم الحرمين الشريفين الإسلامية التي عقدت في بعض الدول، وكان محل ثقة كبيرة من معالي الوزير – يحفظه الله – ومحل ثقة كذلك من المسؤولين في الدولة بعد أن استبان لهم إخلاصه لدينه ووطنه وزهده وورعه وتقواه ورجحان عقله وحصافة رأيه وبعد نظره وصدق نصيحته الخالصة لوجه الله تعالى.
لذا فقد حزن لفقده أناس كثيرون من جميع الفئات والأعمار والمستويات، وما الجموع الغفيرة والأعداد الكبيرة التي توافدت على جامع الراجحي في الرياض للصلاة عليه والتي ذهبت خلفه إلى المقابر للمشاركة في دفنه، والتي توافدت على منزله والتي حضرت إلى مقر الوزارة للعزاء فيه إلا خير شاهد على ذلك فيما يأتي قليل من ملامح تلك الأخلاق الكريمة والسجايا النبيلة التي كان يتحلى بها:
- تميز – رحمه الله – بتواضعه الشديد فقد كان يتبسط في الحديث مع كل من يتعامل معه مهما كان منصبه وقدره وبخاصة المستخدمين وصغار الموظفين، وكل صاحب حاجة، فكان يصغي إليهم باهتمام إلى أن يقف على حاجتهم ويقضيها لهم إن استطاع ذلك، وإلا فيعدهم بالسعي لحلها قدر جهده.
- كان – رحمه الله – لين الجانب بشوشا، فلم يكن فظا غليظا، فلم أشاهده قط ينهر أي إنسان أو يعنفه، وإذا تطلب الأمر ذلك لمصلحة العمل فبالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة.
- كان يعمل في صمت، ولا يحب الشهرة أو الظهور في وسائل الإعلام إلا في الحالات الضرورية التي تقتضيها ظروف العمل، وكان في الاجتماعات والجلسات العامة للمؤتمرات والندوات والمحافل العامة لا يهتم بأن يجلس في الصفوف الأولى – رغم أحقيته في ذلك – بل كان يجلس حيثما انتهى به المقام، ويرفض كل المحاولات التي تبذل معه لإجلاسه في المكان اللائق به وكان يرفض ذلك بأدب جم، وتواضع شديد.
- كان دؤوبا في عمله مخلصا فيه إلى درجة كبيرة، فقد كان يحضر إلى مكتبه في السابعة والنصف صباحا ولا يخرج منه إلا بعد العصر، وأحيانا بعد صلاة المغرب، وكان كثيرا ما يحضر إلى العمل أيام العطلات الرسمية.
- كان همه الدائم ـ يرحمه الله ـ الارتقاء بأعمال الأوقاف بصفة خاصة وأعمال الوزارة والشأن الإسلامي بصفة عامة، وكان يبذل قصارى جهده ووقته لتحقيق ذلك.
- بالإضافة للأعباء إلا أنه كان لا يرفض أي أعمال أخرى تأتيه من الجمعيات الخيرية والجهات الرسمية من خارج الوزارة لثقة المسؤولين في الدولة بأمانته وقدراته ورجحان عقله ورأيه.
- أما عن نزاهته وورعه وتقواه وأمانته تجاه المال العام وبخاصة أموال الأوقاف فإن الحديث في ذلك يطول، والنماذج في ذلك كثيرة لا تحصى ولا تعد، يعرفها كل من عمل معه إلى الدرجة التي كان يقوم فيها بالإنفاق من ماله الخاص على بعض الجوانب التي من المفترض نظاما أن ينفق عليها من المال العام.
- أنعم الله عليه بفكر متميز، ورأي سديد ونظرة ثاقبة في معرفة الرجال، فكان ينزل الناس منازلهم، ويعرف قدراتهم، فيسند كل عمل إلى أهله ممن يستطيعون القيام به على خير وجه، وكانت هذه النظرة ـ بفضل الله ـ غالبا لا تخيب.
- أعطاه الله ـ بفضل صدق نيته وإخلاص الوجهة لله سبحانه ـ عزيمة قوية وبركة في الجهد والوقت، ففي كثير من الأحيان كان يخرج من مكتبه بعد انتهاء الدوام إلى المطار مباشرة لحضور أحد الاجتماعات في جدة، ثم يعود في المساء إلى الرياض لحضور اجتماع مهم يتعلق بشؤون الأوقاف ثم نفاجأ به في الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم التالي يدخل إلى مكتبه في موعده المعتاد.
- من أجلّ النعم التي أنعم الله بها عليه، وهي باب عظيم من أبواب الجنة أن رزقه بر والديه، فكان يبرهما براً شديداً ويرعاهما ويحرص على راحتهما والسهر في رعايتهما وكان فرحا مسرورا بذلك.
- من المواقف النبيلة التي حدثت معي ـ وهي كثيرة ـ أنه في يوم وفاة أخي الدكتور محمد حجازي الأستاذ في جامعة القاهرة فوجئت بفضيلة الدكتور المطرودي ـ يرحمه الله ـ يحضر من مكتبه في الدور التاسع في مبنى الوزارة إلى مكتبي في مبنى الشؤون الفنية خارج مبنى الوزارة، وكان الجو وقتها حاراً، ومعه فضيلة الشيخ عبد الله الغنام الوكيل المساعد لشؤون الأوقاف وسعادة المهندس صالح الأحيدب المستشار في مكتب معالي الوزير لعزائي في وفاة أخي، وقبل أن ينصرفوا من مكتبي استأذنهم الدكتور المطرودي وانفرد بي وأخبرني أنه قد رتب لسفري إلى القاهرة مساء ذلك اليوم لحضور جنازة أخي وتم قطع التذاكر وترتيب كل الأمور وكلف مكتبه بتوصيلي إلى المطار وكان يتابع ذلك بنفسه.
إلى غير ذلك من المواقف النبيلة التي لا تحصى ولا تعد، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وأجرنا جميعا في مصيبتنا وأخلفنا خيرا منها، والحمد لله على قضائه وقدره.. "إنا لله وإنا إليه راجعون".