مجتمع ينبذ مفكريه .. مجتمع لا ينمو ولا يتقدم

بصرف النظر عن التدقيق في ماهية هذا ''التغيير الاجتماعي''، كأن يأتي تحت شعارات ''الإصلاح'' أو ''النهضة'' أو ''التطور''، فإن ثمة إجماعا من لدن صناع القرار وأهل النظر والتفكر والعلماء على معطيين اثنين لا بد من استحضارهما في تفعيل مقتضيات التغيير الاجتماعي والسياسي المنشود:
- هناك أولا الاتفاق على أن هذا التغيير المنشود لن يأتي من الخارج، وذلك على الرغم من وجود قابلية للخذلان و''شيطنة الذات'' لدى عديد من النخب الفكرية التي تشتغل في إطار وسياق ''العمالة الحضارية'' للغير (الغرب الأوروبي الأمريكي على الخصوص)، إضافة إلى أن الانعكاسات المؤلمة لأوضاع العراق وأفغانستان اليوم، تؤكد وتُبعِد بشكل حتمي خيار التغيير من الخارج.
- وهناك ثانيا، الإجماع على حتمية تأسيس أرضية موضوعية لهذا التغيير من الأسس الهوياتية للوطن العربي والعالم الإسلامي، بصرف النظر طبعا عن الاختلافات العرقية والطائفية والتاريخية بين هذا القطر أو ذلك، لكن، ثمة مجموعة من الثوابت الهوياتية التي لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها في مختلف الأقطار العربية، وليست مصادفة، أن يكون الفشل، العنوان الأبرز في مختلف تجارب الإصلاح في المنطقة العربية على الأقل، تلك التي تأسست على مشاريع أيديولوجية منفصلة عن الثوابت الهوياتية لأهل المنطقة، ونخص بالذكر، مشاريع تيارين اثنين: تيار إصلاحي أيديولوجي يرفع شعار ''الإسلام هو الحل''، وتيار إصلاحي أيديولوجي يرفع شعار ''العلمانية هي الحل''، وواضح أن المنطقة العربية، تعُجّ بعديد من الأمثلة الميدانية التي تزكي هذه الخلاصة.
بالعودة إلى محاضرة إبراهيم البليهي، يمكن الجزم أن الاختزال وجلد الذات يُجسدان أهم عناوين المحاضرة، بالصيغة التي تلخصها الفقرات التالية: ''التغيير لم يحرك ساكنا لدى العرب''، الثقافة الغربية هي التي أنجزت الحضارة المعاصرة، التي قلدها اليابانيون واستطاعوا أن يستفيدوا منها، فثقافتنا نحن العرب لم تنتج شيئا ونحن نعيش على إنتاج الآخرين''، مطلوب ''إحكام العقل''، ''العرب هم الذين أطفأوا الوهج الإسلامي الذي جاء به الدين''، ''لن يحصل تصارع للأفكار إلا في بيئات تتوافر فيها حريات كاملة''، ''الولايات المتحدة معذورة في الإجراءات التي بدأت باتخاذها تجاه المسلمين''.
ونعتقد أن المعني بالترحال مع تقييم مجمل هذه التصريحات والرؤى، قد يجد نفسها معنيا بتحرير مبحث قائم بذاته، من فرط الاختزالات والتناقضات التي جاءت في المحاضرة، التي يُحسب لها على الأقل، تمرير مفتاح مفاهيمي متفق عليه هذه المرة، وأشرنا إليه في البدء، من باب التذكير بما يُشبه المُسَلّمات، ومفادها، في رأي المفكر إبراهيم البليهي، أنه ''إذا لم يستجب المجتمع لمفكريهم فلن يتطوروا أبدا''، دون أن يُدقق كثيرا ـ بيت القصيد ـ في طبيعة المفكرين والعلماء الذين يتَعيّن على المجتمع أن يستجيب لاجتهاداتهم، خاصة أن المنطقة العربية والعالم الإسلامي، غنية بتيارات فكرية من مختلف التوجهات.
والحال، أن المجتمع العربي، يجد نفسه غير معني بأطروحات مفكرين يؤمنون مثلا، بحتمية التغيير من الخارج، من باب تفعيل مقتضيات شعار/مشروع ''الاستعمار أرحم''، ويؤمنون بضرورة التأسيس لـ ''قطيعة معرفية جذرية'' مع التراث العربي الإسلامي، وتقليد النموذج الغربي في التقدم، وإلا كيف نفسر أن يأتي مفكر وعالِم شرعي ليخبر الرأي العام في المنطقة ويؤكد أن ''الولايات المتحدة معذورة في الإجراءات التي بدأت باتخاذها تجاه المسلمين''، وأن ''المسلمين أصبحوا سببا في تقهقر العالم وتراجعه عن الحريات بعد أن أصبح أكبر إبداع يقدمونه للعالم هو الإبداع في القتل والتفجير وقطع الرؤوس؟!
كما أن هذا المجتمع، يجد نفسه خارج سؤال الإصلاح والنهضة والتغيير الاجتماعي والسياسي عندما يتأمل ثنايا بعض النقاشات الفقهية التي يتم ''تفجيرها'' بين الفينة والأخرى، خاصة عندما نأخذ في الاعتبار حجم التحديات الحضارية الذي تواجهه الوطن العربي والعالم الإسلامي، وليس فقط تحديات عقدية أو مذهبية أو أيديولوجية.
وبدهي أن هذا المجتمع، الذي ـ في ظل المستويات الرهيبة للأمية الأبجدية والوظيفية التي يعانيها ـ نجتهد في إقناعه بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق صناع القرار وأهل العلم والنظر بخصوص تفعيل مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي، سيُصاب حتما بالذهول والصدمة، عندما يسمع، على لسان أحد هؤلاء العلماء أن ''لا فضل للحضارة العربية على الحضارة الغربية''، وأن ''الغرب هم أول من اهتم بالإنسان وألغوا الرق''، وأنه أخيرا، وليس آخرا، ''الحضارة الغربية هي أول من اهتمت بقضايا المرأة''، وسيزداد حيرة وصدمة عندما يأخذ في الاعتبار صدور إقرارات عن فلاسفة ومفكرين في ذلك الغرب، تدحض جوهر وفلسفة هذا التصريحات التي صدرت عن أبناء الذات العربية والإسلامية، بل إن بعض هذه التصريحات الغربية المنصفة، تسببت للمفارقة في اعتناق عديد من أهل التفكر في الغرب الإسلام دون سواه!
من النقاط المستفزة والواردة في محاضرة إبراهيم البليهي، والموجزة لأحد أهم الأعطاب المميزة للجهاز المفاهيمي لتيار ''تقزيم الذات'' (حتى لا نتحدث عن ''شيطنة الذات'')، الانتصار اللافت للنموذج الغربي في تحقيق التقدم، والطريف، أن الأزمة البيئية العالمية، أسهمت في تصاعد أصوات غربية (قبل الأصوات العربية والإسلامية والشرقية عموما)، بخصوص أعطاب ومآزق مفهوم التقدم الذي يتبناه العقل الغربي، أو ''العقل الاقتصادي الغربي'' عموما، وهو النموذج التي يندد به آل جور، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، إلى درجة حصوله على جائزة نوبل للسلام من باب الإشادة باعترافاته الصريحة بأعطاب النموذج الغربي في التقدم، الذي يدفع بعض أبناء الذات العربية والإسلامية، للإقرار مع ذلك، بأنه ''لا يمكن للحضارة العربية أن تقدم شيئا للحضارة الغربية''، وأنه ليس أمامنا سوى تقليد النموذج الغربي في كل شيء: في التقدم والتحديث (والحداثة، وربما ما بعد الحداثة)، والتعامل مع المقدس والبيئة والإنسان!
المجتمعات العربية والإسلامية، تنتظر علماء ومفكرين وباحثين يدافعون عن طموحاتها وأحلامها في الرقي الاجتماعي والسياسي على المدى القريب، والرقي الحضاري المبدع على المستويين المتوسط والبعيد، ولا تشك في أن تحقيق هذه الأحلام، التي تفترض اتفاق صناع القرار وأهل العلم والتفكر على ''خريطة طريق'' مُعقدة، وتفعيل مقتضياتها وتطبيقاتها، لا يمر عبر الارتهان لأطروحات تيار عربي انهزامي، لا يتردد في التبجيل بالغير واحتقار الذات العربية والإسلامية، التي أنجبت الدين الخاتم بكتابه ونبيه الكريم، وأنجبت ''شمسا علمية عربية وإسلامية''، كانت فأل خير على الغرب، إذا استعرنا العنوان الشهير لأحد أشهر مؤلفات زيغريد هونكه.
على صعيد آخر، وموازاة مع الأدوار الجسيمة الملقاة على عواتق العلماء والمفكرين في معرض تفعيل مشاريع التطوير والتغيير الاجتماعي السياسي، حري بنا العروج على الدور المنوط بالمنظومة التعليمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، لاعتبارات منطقية, وبالتالي بدهية، أهمها أنه لا نهضة ولا إصلاحا ولا رقيا حضاريا، دون الاشتغال على المنظومة التعليمية التي تؤسس جيل المستقبل، بمفاهيم وثوابت هوياتية، وتقاطعا مع مقتضيات الأثر النبوي الشهير عن أهمية وأحقية طلب العلم من الصين، يكفينا اليوم، تأمل الدور التاريخي الذي تأسست عليه ثورة الميجي الشهيرة في اليابان (بدأت عام 1886)، التي تُعد البذرة الجنينية التي جعلت من اليابان اليوم، ثاني قوة اقتصادية في العالم.
بالطبع، وفي ظل واقع عربي يتميز بوجود عقل عربي ''إصلاحي'' أيديولوجي يؤمن تيار منه بحتمية الانقلابات (الإسلامية أو القومية)، ويؤمن تيار آخر منه بحتمية الرهان على الغرب في الانقلاب على الوضع الراهن، والتأسيس لـ ''إصلاح الدبابات''، يصعب كثيرا مطالبة هؤلاء بتأمل مقدمات وتبعات ثورة الميجي، لولا أن بعض المنطق و''إحكام العقل''، ذلك الذي يطالبنا به المفكر إبراهيم البليهي مثلا، ومعه لائحة طويلة من المفكرين والباحثين داخل الوطن العربي والعالم الإسلامي وخارجهما، يجعلنا ننبه هؤلاء ببضع المقدمات التاريخية ''الثورية'' لمن ألقى السمع وهو شهيد.
ـ تكمن أولى هذه المقدمات، في أن ثورة الميجي، التي تعتبر نسخة يابانية خالصة لدور العلماء والمفكرين في تفعيل مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي، وبالتالي التغيير الحضاري، لم تتأسس على ثورات عسكرية انقلابية، على غرار تلك الثورات التي ابتُلِي بها الوطن العربي، بقيادة تيار ''الضباط الأحرار'' في عديد من الدول العربية، أو تيار ''البعث'' هنا وهناك، أو تلك التي قامت بها حركات وجماعات إسلامية.
ـ أما الخاصية الأهم في ثورة الميجي، وتحيلنا مباشرة على الأدوار الخطيرة والحضارية في آن، للمنظومة التعليمية، فتكمن في أن القيم الأساسية للثورة تأسّسَت تحديدا على ثلاثة شعارات وأهداف: محو الأمية الأبجدية، الحفاظ على اللغة الأم مع برنامج علمي ضخم قائم على الترجمة، وأخيرا، تشجيع البحث العلمي. (وليس مصادفة، أن ترى بعض الاجتهادات في منطقة المغرب العربي مثلا ـ وأغلب الظن أن الأمر كذلك بالنسبة للمتخصصين في شؤون منطقة الخليج العربي ـ أن المنظومة التعليمية في المنطقة أصبحت ''قنبلة اجتماعية'' موقوتة، وكذلك الشأن مع المستويات الرهيبة للأمية، في شقيها الأبجدي والوظيفي).
نقرأ في دراسة مرجعية عن دور التربية والتعليم في عملية التحديث والتطوير، وحرّرها الباحث هادي مشعان ربيع، أن أسرع بند من بنود العهد الإمبراطوري الذي صادق عليه سنة 1868 الإمبراطور ميجي، (ويطرح ''الفلسفة الجديدة لحكومة النهضة'')، كان بالذات البند الخامس وهو ''جمع المعارف من شتى بقاع العالم''، حيث وجد استعداداً فطرياً لدى الشعب الياباني. وبما أن حكومة ميجي كانت قد ورثت عن النظام السابق نظاماً تعليمياً لا بأس به, ما جعل من السهولة القيام بوضع أسس التعليم من خلال الانطلاق من المدارس والمؤسسات والتقاليد التربوية التي سبقت عصر النهضة مع تحديثها والارتقاء بها، فكان أول عمل قامت به الحكومة الجديدة إعادة تنظيم المدارس العتيقة لتصبح مدارس حديثة.
أربع سنوات فقط بعد صدور العهد الإمبراطوري، (نحن في عام 1872) سيصدر القانون الأساسي للتعليم الذي لخص مبدأ التعليم عند حكومة ميجي في الفلسفة التالية: ''من الآن ينبغي أن ينتشر التعليم بين الناس بصورة عامة: النبلاء، والمحاربين القدماء، والمزارعين، والصناع والتجار، وكذلك النساء، وذلك حتى لا يكون هناك أسرة من الأميين في القرى، ويجب أن يدرك الآباء هذه السياسة تماما ولا يتوانون في جعل أطفالهم يتلقون التعليم''.
كما تم وضع خطة استهدفت بناء 54 ألف مدرسة ابتدائية، و256 مدرسة متوسطة، وثماني جامعات. ثم اتباع المناهج والمفاهيم الغربية والقيام بإلغاء المدارس الأجنبية لتكريس الطابع الوطني للتعليم، إضافة ـ طبعا ـ إلى قيام الحكومة بإرسال البعثات إلى الخارج التي اتسمت بالدقة الشديدة في اختيار أعضائها فكانوا من أبرز النماذج الوطنية اليابانية في كل المجالات التي اختاروا لها. وبعد عودة المبعوثين من البلاد الأجنبية إلى اليابان كان معظم الطلبة المبعوثين قد بدأوا يهبون أنفسهم في سبيل دفع خطى التحديث في كل نواحي الحياة. كما استقدمت حكومة ميجي المدرسين الأجانب للعمل في المدارس اليابانية، ووصل عددهم أواخر سبعينيات القرن الـ 19 أكثر من خمسة آلاف مدرس، وبين عام 1880-1890 أصبحت اليابانية لغة التعليم العالي وحل الأساتذة الجامعيون محل الأساتذة الأجانب في أغلب مجالات البحث والتدريس.
لتبيان مدى السبق الحضاري للجهاز المفاهيمي ذلك الذي تمتع به الإمبراطور ميجي، يكفي الاطلاع على بعض نشرات الأخبار في بعض الفضائيات العربية اليوم، ونحن في مطلع الألفية الثالثة، بحيث يمكن الاصطدام بالمشاريع نفسها والحيثيات الإجرائية نفسها، بخصوص حديث مقدم(ة) الأخبار في هذه الفضائية أو تلك، عن بناء ''54 ألف مدرسة ابتدائية، و256 مدرسة متوسطة، وثماني جامعات''، لولا أننا اليوم في سنة 2010، في حين، كانت اليابان قد شرعت في هذا التشييد والبناء منذ سنة 1886!
وما جرى بين منعطف 1886 واليوم، يعد تحصيل حاصل، لأن الرؤية كانت واضحة والإرادة حاضرة والتنفيذ جاهزا ويتم بندا ببند، فمع حلول الأربعينيات من القرن الماضي مثلا، أنشأت الحكومة وكالة التكنولوجيا في عام 1942 باعتبارها أول هيئة حكومية مستقلة للنهوض بالسياسات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا، ثم شكّل بعد ذلك مجلس العلوم والتكنولوجيا في العام نفسه ليكون هيئة استشارية لمجلس الوزراء. وهكذا ورغم أن التعليم في زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية كان قد زاد الاتجاهات الوطنية شدة فقد كان له أيضا طابع تقدمي باعتباره استمرارا لعملية إدخال الأساليب الحديثة التي بدأت خلال العهد الميجي.
ولعل مُجمل هذه التطورات تُخوّل لأي متتبع عربي منصف جرأة الإقرار العلمي الرصين ـ وليس الانهزامي كما يفعل البعض من مُرَوّجي أطروحات شيطنة الذات ـ بأن النظام التعليمي الياباني استطاع أن يؤدي دورا كبيرا في تحقيق عملية التحديث اليابانية، بل كان واحدا من العوامل المهمة التي وقفت خلف نجاح هذه العملية واستمرارها حتى وقتنا الحاضر، وكون أبرز الأمور الجوهرية التي مكنت هذا النظام التعليمي من ممارسة هذا الدور يرجع إلى انطلاقته منذ بدء نهضته الحديثة من جذوره ومؤسساته وتقاليده المتأصلة والقائمة بالفعل، قبل عصر النهضة مع تطويرها عن طريق الإصلاحات العديدة والمستمرة فيه.
إنها مسألة رؤى وإرادة وتفعيل، من لدن العلماء والمفكرين، من المعنيين الصادقين بحتمية التغيير الاجتماعي والسياسي والحضاري للوطن العربي والعالم الإسلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي