ليس دفاعاً عن وزارة الاقتصاد والتخطيط إنما ..

على مدى السنوات الماضية تعرضت وزارة الاقتصاد والتخطيط للنقد من قبل بعض الكتاب وبعض أعضاء مجلس الشورى، وهو نقد مطلوب لو انطلق من حيثيات موضوعية وعلمية، لكن أغلبية ما سفح من حبر كانت تصدر عن موقف انطباعي وتصورات مسبقة لم يكلف أصحابها أنفسهم الاطلاع على الكيفية التي يتم بها بناء الخطة ولا المهام المحددة للوزارة من قبل مجلس الوزراء.
لقد تم تحميل وزارة الاقتصاد والتخطيط مسؤولية كل ما نجم من تعثرات أو قصور في إنجاز برامج التنمية ومشاريعها، بل ذهب بعضهم إلى ما يشبه نكران أي دور للتخطيط وأي منجز له وكأن كل هذه التحولات الشاملة في البنية الخدمية والإنتاجية في مختلف المناطق شيء لم يكن!
إن قراءة متأملة فيما كتب عن الخطة والوزارة تعزز هذا المنحى, فثمة قطيعة معرفية مع الأسس والآلية التي تعمل بموجبها وزارة الاقتصاد والتخطيط لأداء عملها ولإنجاز خطة التنمية في الوقت نفسه، ذلك أن الوزارة لا تعمل بمعزل عن الجهات الحكومية وإنما هي أصلاً تنطلق منها, حيث تستقبل الوزارة من كل جهة مشروع خطتها بما تتضمنه من أهداف ووضع راهن وبرامج ومشاريع وتقديرات مالية، وهي أيضاً لا تفعل ذلك إلا وفق دليل لإعداد الخطة يرسل لكل جهة مسبقاً ليكون بمثابة خريطة طريق يعد على أساسها وفي ضوئها مشروع خطتها، وقبل أن تشرع الوزارة في ذلك تعد بالتعاون مع الجهات الحكومية والجامعات والقطاع الخاص استراتيجية الخطة المتضمنة الأسس الاستراتيجية والأهداف العامة للخطة التي تقر أولاً من مجلس الوزراء ثم توزع على الجهات للاسترشاد بها كمنظومة من الخطة الطويلة الأمد وكأفق للرؤية للسنوات الخمس المقبلة. بل إن الوزارة تكون قبلها قد قامت بتقويم لأداء الخطة السابقة بناء على تقارير المتابعة والمعلومات والبيانات الإحصائية والدراسات المساندة، التي، تظل عملاً مستمراً داخل الوزارة تقوم به كلما رأت أن الأمر يستدعي القيام به ككشاف للتحقق مما يجري ويحدث وللتعرف على أوجه القصور أو نوع الاحتياج.
بناء على ذلك كله تشكل الوزارة فريق عمل من جانبها وتطلب إلى الجهات تشكيل فريق عملها الخاص بها وتظل الاجتماعات على مدى سنوات إعداد الخطة قائمة بقصد الوصول إلى صياغة واقعية لأهداف الجهة وبرامجها ومشاريعها، بمعنى أن الوزارة لا تضع مشاريع الجهات وبرامجها على مزاجها وهواها، وإنما بناء على ما تراه الجهات الحكومية نفسها حيوياً وضرورياً, وبالتالي تعمد الوزارة بعدئذ إلى وضع مجمل برامج ومشاريع الجهات الحكومية في إطار شمولي يسمى الخطة العامة بحيث لا تتقاطع برامج ومشاريع الجهات أو القطاعات فيها أو معها وإنما يتناغم بعضها مع بعض في حرص أكيد على عدم التكرار لمشروع يؤدي دور مشروع آخر.
على هذا النحو لا تصبح الكرة في مرمى وزارة الاقتصاد والتخطيط مهما كان الأمر، لأن الوزارة لا تنفذ مشاريع الخدمات التعليمية أو الصحية أو النقل أو الطاقة أو البلدية أو المياه, وبشكل عام كل القطاعات الخدمية والإنتاجية، وإذا ما كان ثمة خلل أو قصور أو تأخير أو معوقات فليست الخطة ولا الوزارة ذاتها مسؤولة عنها وإنما المسؤول عنها إما أن بعض مشاريع الخطة تم وضعها على الرف واستبدالها بغيرها وإما لأنها خضعت للتأجيل أو البطء في التنفيذ, وكل ذلك مسؤولية الجهات نفسها وليس مسؤولية الخطة أو الوزارة.
وقد يحتج البعض على هذا الطرح بالقول إن الوزارة مسؤولة عن المتابعة، وهذا صحيح، وهي ما تقوم بها سنوياً، لكنها ليست مخولة بالحساب أو العقاب, فدورها المحدد لها أن تستقبل وتقف على جردة الحساب للبرامج والمشاريع سنوياً مع الجهات نفسها, وفي الوقت ذاته تقوم الوزارة بإعادة إدخال المعلومات عنها في تقارير متابعة لكل جهة وبتقرير عام عن المشاريع الحيوية، ترفع كلها لمجلس الوزراء حتى تكون لديه كامل الصورة.
فهل على وزارة الاقتصاد والتخطيط بعد ذلك كله أن تتجاوز صلاحياتها وتعد الخطة والبرامج والمشاريع وفق ما تراه فحسب؟ لو كان الأمر كذلك لجاز أن نصب عليها اللوم فيما يقال من نقد، علماً بأن الوزارة تقوم بهذه المهام التخطيطية الاقتصادية الاجتماعية, وهي التي لم يأتها من إضافة ''الاقتصاد'' إليها سوى الاسم, فلا وكالة الاقتصاد ولا موظفوها ولا الأدوات المعرفية والبحثية والعلمية أو عضويات الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية التابعة للاقتصاد انتقلت إلى ملاك الوزارة، أما الازدواج الذي يعزف عليه كثيراً فيما يتعلق بتمويل برامج الخطة ومشاريعها بين وزارة المالية وبينها فذاك شأن لا تحسمه الوزارة، وربما هو من صلاحيات المجلس الاقتصادي الأعلى أو مجلس الوزراء بالذات، وليس أمام الوزارة سوى التحرك في تمويل الخطة بناء على سقف محدد للإنفاق تخضع له, أما المشاريع التي لا تدخل ضمن هذا السقف، وإن كانت في الخطة (بنسبة مئوية) فعليها أن تنتظر في طابور توفير أموال لها خلال سنوات الخطة أو يتم ترحيلها كأولوية في الخطة اللاحقة, علماً أن جميع برامج ومشاريع خطة التنمية الأخيرة (الثامنة) الأولي منها والثانوي تم اعتمادها بالكامل!
هناك من يتعامل مع وزارة الاقتصاد والتخطيط باعتبارها خزانا فكريا think tank أو مركزا وطنيا للدراسات والأبحاث، وبالتالي فهو يجعلها شماعة يعلق عليها كل ما يبرز من ظواهر أو معوقات سلبية, وأنها لم تتنبأ بهذا ولم تستشرفه، وعلى هذا فهي مسؤولة عن البطالة، عن العمالة الوافدة، عن نوعية مخرجات التعليم، عن كفاءة الخدمات الصحية وغيرها. بل بالمطلق عن عدم تحقيق التنمية المتوازنة وكأن الجهات الحكومية ليست هي التي تضع للمناطق برامجها ومشاريعها وكأنها لا تقر من مجالس المناطق؟! لسوف يسعد الوزارة أن تكون هذا الخزان أو هذا المركز، لكن الواقع الصريح أن مهامها ليست كذلك .. ولهذا فالأصوات التي تنادي بهذا، تشبه تلك التي تستنزف قدراً كبيراً من الكلمات الإنشائية وتنتهي بأهمية إنشاء هذا الجهاز أو ذاك أو وضع استراتيجية أو آلية أو التضمين في المنهج .. مجرد اجترار خارج سياق مهام هذا المرفق أو ذاك، حتى أن البعض طالب بتحويل الوزارة إلى هيئة مركزية للتخطيط وكأنها لم تكن في السابق كذلك، فيما بعض آخر لم يفرق بين وزارة الاقتصاد والتخطيط وتخطيط المدن!!
ما أقول هنا، ليس دفاعاً عن وزارة الاقتصاد والتخطيط، إنما دفاع عن الموضوعية التي ينبغي أن تصدر عنها كتاباتنا، فلو أن الكتابات مثلاً انطلقت من مهام الوزارة واحتجت بها لما كان الحديث معوجاً إلى هذه الدرجة، ولو كان النقد قادماً من محتوى الخطة والبنية الفنية لها ومنهجيتها والمعلومات والبيانات والجداول والنسب والمعدلات والنماذج وغيرها من أسس معرفية صرفة تضمنتها، لربما أيضاً دار الحديث في اتجاه إثراء وتقويم منهج ومحتوى التخطيط والخطة، ولو كان اللوم مبنياً كذلك على تواصل مباشر مع مسؤولي الوزارة والتعرف منهم من كثب على هذا الذي يعملونه أو يدونونه في الخطة لربما أخذ اللوم مسار السند أو تفهم الإمكانات والحدود المرسومة للوزارة وأدائها وللخطة وبنائها، غير أن المؤسف أن كثيراً مما كتب لم ينهض على كل ذلك, ولا حتى على دراسة أو بحث لفعاليات التخطيط عندنا نظرياً وتطبيقياً أو تفحص بحثي للواقع وتمحيص له فرغم هذه التخصصات الاقتصادية أو الإدارية فنحن نشكو فقراً واضحاً في بحوث التنمية وأدبياتها, وبالذات حصاد تجربتنا التنموية, وبالتالي وقعت معظم الكتابات في شراك المشاكسة و''فش الخلق'' فلا المهام كانت حاضرة ولا آلية إعداد الخطة ولا التواصل مع المسؤولين ولا حتى زيارة موقع الوزارة على الشبكة الحافل بكل وثائق الخطط وبإصدارات الوزارة ومعلوماتها وبياناتها ناهيك عن الكتابة دون اتكاء على الدراسة الموضوعية والبحث الميداني, الأمر الذي جعل معظم ما كتب يقع في شراك المشاكسة فحسب!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي