مساكننا .. ومتى تنتهي عادة الإسراف؟
على الرغم من مرور الأزمة الاقتصادية وتداعياتها علينا، إلا أن الطريقة التي نمارسها في بناء مساكننا سواء كمواد بناء او مساحات ما زالت تمر بحالة من الفوضى الفكرية التي أساسها التقليد الاجتماعي والتنافس بين الأقارب والأصدقاء. وهي حالة تمر بها معظم المجتمعات، لكن في وقت مبكر من التطور الحضري والعمراني. ولعل هذه الأزمة تساعدنا على التخلص من هذا الهدر والإسراف، فهي ظاهرة نستغرب منها ويستغرب منها غيرنا من الخبراء الأجانب الذين يزوروننا في مدى كمية الإسراف في مساحات البناء ومواده، فنسرف في المساحات وكميات الحديد والأسمنت والخرسانات للأحواش والحدائق وسماكات الحوائط وارتفاعات الأسقف والأسطح.
وفي الأسبوع الماضي نشرت هذه الصحيفة وتساءلت عن مشاريع الإسكان التي تقوم بها الهيئة العامة للإسكان، ورأت أن مساحات الوحدات المخصصة لمحتاجي السكن مساحات كبيرة، واقترحت أن يتم فصل كل دور ووضع درج جانبي ليستفيد منها أكثر من عائلة. وبذلك يستفيد منها عدد مضاعف من محتاجي الإسكان، لكن يبدو لي أن محتاجي الإسكان لديهم شره أكثر لمساحات أكبر، وهو ناجم عن عاداتنا التي ذكرتها. وكلما كبر المنزل ازدادت مصروفات الصيانة ودفع الفواتير، لذلك فإن حل مشكلات الإسكان يجب أن تكون موجهة إلى تأهيل المحتاج إلى العمل ليستطيع مستقبلاً أن يستمر في تأمين مصروفات السكن.
وعالمياً نجد أن معدل ما تحتاج إليه الأسرة من الطبقة المتوسطة دور أرضي أو شقة في حدود 80 إلى 100م2، بينما المعدل لدينا لا يقل عن الضعف إذا لم يكن ثلاثة أو أربعة أضعاف. فنحن لدينا مساحات أكثر من احتياجنا، فغرفة النوم ليست للنوم كما يستعملها العالم، بل لكل شيء: النوم، القراءة، الأكل والشرب، واستقبال الضيوف. حماماتنا أكبر مما يجب، خاصة ما يقوم به البعض من وضع بانيو ودوش لحمام الرجال والنساء، الذي يندر استعماله. نبني مجالس استقبال الضيوف ونفرشها أغلى أثاث ولا نستعملها، بل نستقبل ضيوفنا في الملحق الخارجي حتى يقدم ويتغبر الأثاث الغالي وتأكله الحشرات. ولا أدري عندما يستقبلني بعضهم في الملحق، هل هو يعني أن مجلسه أكبر من مستواي وأن المجلس لاستقبال من هم أهم مني؟!
المساكن منذ عرفها الإنسان تطورت من كهف حتى وصلت إلى مرحلة القصور الضخمة في أوروبا، ثم رجعت اليوم إلى وحدات سكنية صغيرة وموحدة المواصفات وتحقق رغبات من يسكنها وبقناعة ومن دون إسراف. وأصبح حتى الأثرياء ورؤساء كبريات الشركات يسكنون في شقق أو وحدات سكنية لا تتعدى 100 متر. ومع أن الظاهرة التي نعيشها ظاهرة معروفة وتفسرها نظرية دورة حياة المنتج كما يعرفها علم الاقتصاد، التي سأعود لتفسيرها لاحقاً. إلا أننا في المجتمع السعودي ما زلنا متأخرين عن غيرنا كثيراً في تصاميم منازلنا، فالعالم وصل إلى مرحلة المواصفات والتصاميم الموحدة والقياسية. حتى أصبحت نماذج المساكن ومساحاتها تقريباً متماثلة ونموذجية ومن دون إسراف، فكلها تقريباً تستعمل مواصفات الحوائط الخفيفة والدهان والسيراميك العادي الأبيض أو أحياناً الطوب المكحل. وابتعدوا كثيراً عن التباهي والمحاكاة حتى أصبحت مقايسات ونماذج الأبواب والنوافذ والحوائط والستائر موحدة ويمكن لرب العائلة شراؤها من أقرب متجر حوله وتركيبها بنفسه في عطلة نهاية الأسبوع. وتمتد مجمعات سكنية مكونة من عديد من الوحدات الصغيرة المتلاصقة والمتشابهة ويتشاركون في حديقة واحدة وسط الحي. بل إن عدد العمالة التي يحتاج إليها لبناء الوحدة قد لا تتعدى خمسة أشخاص أحياناً. وهي بداية الحل لمشكلة الإسكان والمسكن الميسر وجعله في متناول الجميع.
والإسراف يتمثل في استعمالنا مواصفات أكثر من اللازم، فالأسقف عادة نجدها أسمك من اللازم وكميات الحديد والأسمنت مبالغ فيها. ومع ارتفاع أسعار مواد البناء لا بد من الاهتمام بعمل حسابات إنشائية أكثر دقة، فمثلاً استعمال الأسقف العالية فيه زيادة في مواد البناء للحوائط والأسقف ومن ثم تكلفة التكييف والإنارة. ولماذا نستعمل طوب (بلك) 20 و15 سنتيمتراً، بينما يمكن استعمال بلك عشرة سنتيمترات، خاصة للحوائط الداخلية التي فيها القليل من التمديدات الكهربائية والصحية؟ إن توفير عشرة سنتيمترات في عرض كل حائط يصغر عرض المنزل ما بين نصف إلى متر على الأقل. أي يعطي اتساعاً للغرف والمنزل. ويمكن التوفير في كميات الخرسانة التي نستعملها للمشايات والأحواش. كما أن سماكة الأبواب عالمياً في حدود سنتيمترين، بينما لدينا لا تقل عن خمسة سنتيمترات! ضعف كمية الخشب والتكلفة. وكذلك الحال لسماكة قطاعات الألمنيوم والزجاج، فهي ضعف السماكة العالمية. بينما استعمال أبواب ونوافذ وستائر بمواصفات ومقايسات موحدة (ستنادرد) أو جاهزة يوفر كثيراً ويساعد على المرونة لتغيير الأبواب مع بعضها.
وهذه الظاهرة التي نعيشها أرى أننا يجب أن نبدأ في التفكير في نبذ الإسراف ولنكن واقعيين، وهو ما يحتمه العقل والنظريات العلمية، فنظرية دورة حياة المنتج تساعدنا على فهم ذلك، فهي تنظر إلى المنتج، وهو المنزل في حالتنا، منذ نشأته إلى تطويره ثم وصوله إلى حالة النضج ثم النمذجة. مثله في ذلك مثل تطور الحاسوب من جهاز بحجم الغرفة وبتكلفة بالملايين إلى جهاز أصغر من الكتاب. أو الساعات من صناديق وزجاجات رملية لا يستطيع حملها الإنسان إلى حزام صغير حول المعصم أو شاشة بصغر الزر. ومن المنطلق نفسه فإنه يمكن تفسير ظاهرة مساكننا ومعظم الوحدات العقارية سواء السكنية أو التجارية أو المكتبية بأنها تمر بالمرحلة والنمط نفسيهما من النمو والتطور بالتطابق مع نظرية دورة حياة المنتج. وهي من أشهر النظريات الاقتصادية التي طورها ريموند فيرنون كرد فعل لفشل نظرية أو نموذج هيكشر أوهلن لتفسير نمط التجارة الدولية ومتابعته. وهي باختصار تفسر أنه في بداية عمر المنتج فإن جميع الأجزاء أو المواد المصنع منها المنتج والأيدي العاملة تأتي من المنطقة نفسها التي اكتشف أو اخترع فيها المنتج. لكن بعد خروج المنتج وتداوله واستعماله في السوق العالمية فإن الإنتاج يصبح خارج منطقته. ومن الأمثلة المتعارف عليها مثال الحاسوب الشخصي (الكمبيوتر)، الذي تم اختراعه في الولايات المتحدة ثم تناقلت تصنيعه دول أخرى عدة بعد تصديره خارج بلده. أو الساعات التي اشتهرت بها سويسرا ثم انتشرت في كل مكان. وهناك أربع مراحل من حياة المنتج وهي البداية ثم النمو ثم النضج، وأخيراً الانحدار.
وهذه النظرية تنطبق على معظم دورات حياة المنتجات، سواء العقارية أو الصناعية أو التجارية. ولعلنا اليوم نستفيد من النظرية في تفسير أو استشفاف مستقبل الوحدات السكنية في بلدنا، فالوضع الحالي لنا، وبناءً على النظرية، هو أننا ما زلنا متأخرين في السبق للوصول إلى مرحلة النضج العمراني. وأننا قد نستغرق عقوداً من الزمن لحين الوصول إلى مرحلة النضج والتوحيد للمقايسات والنماذج (ستاندرد). لقد مررنا بمرحلة لم يكن المواطن السعودي يرضى بالسكن في شقة، بل منزل وحوش، ثم تغير الوضع بعد سنوات وأصبح يرضى بالفلل المتلاصقة، لكن ليس بالشقة. وأخيراً رضي بالشقة، لكن كبيرة وفخمة وبمواصفات متميزة.. فمتى نصل إلى مرحلة النضج في منازلنا؟ والنضج في التوفير على أنفسنا ومقدراتنا ومقدرات الوطن. وأن نترك الإسراف والتباهي الزائف، خاصة لمن يشتكون من عدم القدرة على الحصول على سكن أو من يطالب بالإسكان الميسر.