الطفولة العربية .. ضياع على أسنة ورياح العولمة

مما يزيد الصورة تشويشا، أن تربية أطفال اليوم (رجال الغد) تشهد الكثير من التشابك والتفاعل غير المتوازي بين عوامل ثلاثة على الأقل: مؤسسة الأسرة، والمؤسسة التعليمية، والمؤسسة الإعلامية (تلفزيون، ألعاب فيديو..)، وباعتبار الدور المتصاعد للعامل الثالث، بل إن المؤسسة الإعلامية تُعتبر أهم معالم سطوة العولمة وإحدى أبرز آليات الهيمنة والتأثير، فلنا أن نتصور طبيعة التحديات المركبة التي من المفترض أن تؤسّس للجهاز المفاهيمي لأطفال اليوم.

#2#

ونكاد نجزم، أن تربية النشء والأطفال في الوطن العربي اليوم، تعتبر ''قنبلة اجتماعية موقوتة''، وشبه مسكوت عنها، وإذا جاز لنا أن نتخيل معالم ''العقل العربي'' للأجيال القادمة، فيكفي التنقيب عن بعض ملامح هذا العقل في ما نُربّي عليه أطفال اليوم، في مؤسسة الأسرة أولا، والمؤسسة التعليمية ثانيا، والمؤسسة الإعلامية ثالثا، والتي، لأسباب ذاتية وموضوعية في آن، أصبحت تنافس بشكل مقلق أدوار مؤسسة الأسرة والمؤسسة التعليمية.

لنلاحظ أننا نتحدث فقط عن واقع نظري صرف، من خلال الحديث عن معالم تشابك التأثيرات التي تُميّز تنشئة الطفل بين المؤسسات الثلاث إياها (مؤسسة الأسرة، المؤسسة التعليمية، والمؤسسة الإعلامية)، دونما أي خوض تفصيلي في قلاقل ملفات مجتمعية تهم مستقبلا تُنذر بمستقبل أسود المعالم، بالنسبة للأطفال المعنيين بهذه الملفات، من قبيل مواضيع التحرش الجنسي، التشغيل، الاغتصاب، توظيف الأطفال في التسول، العنف ضد الأطفال.. إلخ.

ولو توقفنا نموذجا عند النموذج الأخير، وبالعودة إلى بعض ثنايا أشغال منتدى المجتمع المدني العربي للطفولة، في نسخته الثالثة، والذي نُظم مطلع العام الجاري بالقاهرة ''من 23-25 شباط (فبراير) 2010'' برعاية الأمير طلال بن عبد العزيز رئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية، سوف نصطدم بالتباينات الصارخة بين القراءة النظرية ونظيرتها التطبيقية لواقع الطفل، فقط في الخانة الخاصة بموضوع العنف ضد الأطفال، (ولا نتحدث عن التحرش الجنسي أو الاغتصاب أو التسول أو التشغيل..).

فبينما أشارت الدكتورة مارتا سانتوس باييس، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بشأن العنف ضد الأطفال، إلى أن ''المادة 12 من اتفاقية حقوق الطفل الدولية تؤكد على حق الطفل في الاستماع إليه، والمادة 13 من الاتفاقية نفسها تكفل له حرية التعبير''، أشار الطفل محمد فكري عبد المعبود (من مصر) إلى لائحة من أشكال العنف التي يتعرض لها الأطفال المصريين قائلاً بالحرف: ''إننا نتعرض إلى العنف في كل مكان سواء كان في المدارس، أو في العنف الأسري فكثير من الآباء يرون أن الضرب الوسيلة المثلى لتأديب الأطفال، بالإضافة إلي إن العنف المجتمعي والمتمثل في ظاهرة أطفال الشوارع الذين يتم الاتجار بأعضائهم ويتم انتهاك إنسانيتهم دون الالتفات إلى أنهم أطفال حُرموا من طفولتهم وارتدوا ثوب الإجرام مبكراً''. بالطبع، لا يهم هذا التناقض بالضرورة جميع أطفال المنطقة العربية، فالمكانة الاعتبارية للطفل في مصر، حيث يناهز عدد السكان 80 مليون نسمة، لا يمكن أن تكون ذات المكانة في أغلب دول الخليج العربي، حيث نسبة عدد السكان أقل بكثير، لولا أن هناك قواسم مشتركة، لا علاقة لها بموضوع المكانة الاجتماعية والحالة المادية للأطفال.

مُهم جدا التوقف عند بعض المستجدات الميدانية والمفاهيمية التي تعصف بأدوار المؤسسات الثلاث سالفة الذكر، من باب تذكير من يهُمّهم الأمر (صناع القرار بالدرجة الأولى، والأقلام المعرفية الغيورة على واقع المنطقة)، بأن أوضاع الطفل العربي لا يمكن أن تبعث على الاطمئنان، على غرار أوضاع المرأة العربية والفرد/المواطن العربي بشكل عام في زمن العولمة، لأنه من إفرازات منظومة العولمة، أن تهدد كينونة الفرد/الإنسان/المواطن، سواء كان عربيا أو غربيا، مؤمنا أو ملحدا، لولا أنه يهمنا أكثر التوقف بالتحديد عند حالة الفرد العربي، من خلال نموذج الطفل بالذات:

ـ بالنسبة لمؤسسة أداء مؤسسة الأسرة، فلا شك أن المستجد الديمغرافي المثير، يُجسّد لوحده هاجسا قائما بذاته في معرض تأمل تبعته على تربية النشء، بدليل صدور إقرارات رسمية في العديد من دول الخليج العربي تُحذّر بشكل صريح وواضح من آثار الاختلال الديمغرافي الذي يهم المنطقة، وخاصة في الإمارات العربية المتحدة وإماراتي قطر والبحرين، وبدرجة أقل في إمارة الكويت والمملكة العربية السعودية. (تشير إحصائيات حديثة التاريخ في هذا الصدد، إلى أن نسبة العمالة الوافدة تبلغ نحو 39 في المائة من مجموع سكان بلدان مجلس التعاون الخليجي، وأن هذه النسبة تصل إلى نحو 80 في المائة في بعض بلدان المجلس، وإلى 90 في المائة من مجموع الأيدي العاملة فيها!).

وفي إطار منطق استيراد العمالة، نجد صنفا من العمالة معنيا بتربية الرضع والأطفال، وواضح أن طبيعة التربية البيداغوجية عموما، تلك التي يتلقاها الطفل العربي من مُربّية عربية من خارج منطقة الخليج العربي، ستكون مختلفة عن ذات الطبيعة التربوية التي من المفترض أن يتلقاها من مُربّية خليجية، ونحن نأخذ في الاعتبار وجود عدة قواسم حضارية مشتركة بين المربيتين (في الدين واللغة على الخصوص)، فيمكن أن نتوقع معالم الاختلافات الصارخة بين الحالتين السالفتين، مع الطبيعة التربوية التي يتلقاها الطفل الخليجي اليوم من طرف مُربّية أسيوية!

ـ فيما يتعلق بأداء المؤسسة التعليمية، فتبقى لصيقة بطبيعة المشاريع التعليمية في الدولة القطرية المعنية، حيث نستحضر بداية، الجدل الدائر منذ عقد تقريبا حول طبيعة المناهج التعليمية في شقها الديني، تلك السائدة في المنطقة العربية ـ وهو جدل محلي وخارجي في آن، للتذكير فقط، بحكم أنه اندلع تحديدا نتيجة ضغوط واستفزازات خارجية أكثر منها إكراهات محلية ـ وحتى بصرف النظر عن دلالات هذه الضغوط الخارجية، ومعها ضغوط مسكوت عنها، صادرة هذه المرة عن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، فإن خبراء القطاع التعليمي في المنطقة العربية، يجمعون على أن مُعظم مناهج التعليم العربية الحالية متخلفة عن الركب العالمي، وغير مؤهلة لخلق جيل عربي قادر على مواجهة تحديات اللحظة الحضارية، ويكفي تأمل واقع البحث العلمي في المنطقة، ومعه واقع الترجمة.

ـ تختلف الأمور كثيرا في حالة أداء المؤسسات الإعلامية، حيث تتداخل من جهة، أداء المنتوج المحلي العربي/القطري، مع هجوم كاسح لمنتوج غربي، مسيحي ـ يهودي، أو مادي ـ إلحادي، وبالتالي يُكرّس مشروع ''تفكيك الإنسان''، ولا يُهدّد فقط الطفل المؤمن، سواء كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، وإنما يهدد الطفل الإنسان، وبالتالي، يفكك رجل المستقبل، ليُصبح مجرد مُترجم لطموحات ورغبات المتحكمين في هذه القنوات الإعلامية والاتصالية (الفضائيات، شبكة الإنترنت، ألعاب الأطفال، المسلسلات الكرتونية..).

ولتبيان مدى سطوة وتأثير المؤثرات الإعلامية الجديدة، ومنافستها لأدوار مؤسسة الأسرة والمؤسسة التعليمية، يكفي تأمل مضامين البرامج المسلسلات الكرتونية التي تُوجه للطفل العربي اليوم، والتي يتم استيراد أغلبها من الخارج (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان)، مقابل الحضور المتواضع للأعمال الدرامية والمسلسلات الكرتونية المحلية، وبحكم أن الطفل يمتثِل بدوره لمبدإ ''الطبيعة لا تقبل الفراغ''، فلنا أن نتصور مدى تأثير هذه المضامين على الجهاز المفاهيمي لرجال الغد في الوطن العربي. (ونستحضر في هذا المقام، التفكيك الرصين الصادر عن الراحل عبد الوهاب المسيري، لمضامين المسلسل الكرتوني الأمريكي الشهير ''توم وجيري''، حيث اعتبر أن قِصص هذا المسلسل ''تبدو بريئة، ولكنها تحوي دائماً صراعاً بين الذكاء والغباء، أما الخير والشر، فلا مكان لهما، وهذا انعكاس لمنظومة قيمية كامنة وراء المنتج''، دون الاستشهاد بما جاء في دراسات علمية رصينة تُفكّك هذه الأعمال والمسلسلات، خلُصت مثلا، إلى أن الرسوم تُروّج للعبثية وغياب الهدف من وراء الحركة والسلوك، والسعي للوصول للنصر والغلبة بكل طريق، انتصارا لشعار ''الغاية تبرر الوسيلة''، إضافة إلى أنها تعمل على تحريف القدوة وذلك بإحلال الأبطال الأسطوريين محل القدوة بدلاً من الأئمة المصلحين والقادة الفاتحين، فتجد الأطفال يقلدون الرجل الخارق، والرجل الوطواط، والرجل العنكبوت، ونحو ذلك من الشخصيات الوهمية التي لا وجود لها، فتضيع القدوة في خضم القوة الخيالية المجردة من بعدٍ إيماني.

نحسب أن أغلب الآباء والأمهات في المنطقة العربية يجهلون بشكل عام الخلفية القيمية والفلسفية لمثل هذه المسلسلات الكرتونية التي تسيل لعاب الطفل العربي، فكيف نطلب من هذا الأخير أن يحمل هموما حضارية عربية في المستقبل، إذا كنا نتحمل مسؤولية أخلاقية وبالتالي حضارية في تربيته على نسق قيمي لا يمكن بأي حال أن يخدم قضايا الإنسان والمواطن والأرض في المنطقة، على المدى المتوسط والبعيد.

لنلاحظ أننا لا نتحدث في عوالم المجاز والتنظير، وإنما نتحدث عن مضامين جليّة في أعمال فنية، تعرف إقبالا منقطع النظير من لدن أطفال اليوم في المنطقة العربية، تُكرّس بشكل مقلق مشاريع تفكيك الإنسان (سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا)، وتجعل منه، (الطفل نموذجا)، مجرد ''مادة استعمالية''، يتم توظيفها والتلاعب بها، كما يشاء صناع القرار المادي/الاقتصادي في الغرب، وقد يكون أبرز مثال في التعامل مع الطفل العربي باعتباره مادة استعمالية، تأمل توظيف الطفل في العديد من الفيديوكليبات عربية، لـ''مطربات'' عربيات اشتهرن أساسا في أغاني ''العري كليب''، والطريف أن بعض هذه الأعمال، موجهة للطفل العربي، وبعضها الآخر مواجه للمراهق العربي، وكلاهما، لا يخلو من دلالات وإيحاءات جنسية مقززة!

إذا كانت الصورة تتضّح بشكل أو بآخر بخصوص طبيعة التحديات الجمّة التي تواجه صناع القرار المجتمعي في معرض تربية وتأهيل أطفال اليوم، فإنها ستتضّح أكثر، عندما نضيف تحديات موازية، تهُمُّ أغلب الأقطار العربية مجتمعة، أو تهُمُّ منطقة عربية دون غيرها، وقد يكون أحد أكبر هذه التحديات، ذلك المرتبط بمكانة اللغة العربية في المسلسل التربوي الذي يؤطر التكوين البيداغوجي للطفل العربي اليوم، من منطلق أن اللغة العربية، برأي أهل الاختصاص، ليست أداة للاتصال والفكر واكتساب المعرفة فحسب، ولكنها مظهر أساسي للذاتية الثقافية العربية، ووسيلة لتعزيزها سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة في ظل سمات المجتمع العربي المتنوع، ونقتطف هنا، ما جاء في مداخلة قيّمة للدكتور أحمد محمد المعتوق (أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالسعودية)، جاءت تحت عنوان: ''لغة الطفل العربي في دول الخليج الواقع والتحديات''؛ وألقاها في ثنايا أشغال مؤتمر عالمي نُظّم أخيرا في القاهرة بمقر جامعة الدول العربية؛

وما ميّزَ مداخلة أحمد محمد المعتوق أنها طلّقت ''خطاب طمأنة الذات''، وهو خطاب يُميز العديد من اللقاءات التي تُنظم حول هذه التحديات، حيث أكد صراحة على أن ''استقطاب العمالة من مختلف الجنسيات'' في منطقة الخليج العربي، ساهم في ''تسلّل اللغة الأجنبية وغيرها الكثير من اللغات الأخرى حتى أصبحت تنافس اللغة العربية الأم في كثير من المواقع العامة والخاصة، ونفذت إلى حمى الأسر من خلال الخدم والمربيات، كما امتد هذا الصراع إلى الحياة الخاصة ليُهدّد لغة الأطفال بدءاً من نشأتهم الأولى، وتعاملهم مع الأطفال فضربت بذلك اللغة العربية في جذورها وفي عقر دارها''، مضيفا في صراحة تُحسبُ له بحق أن ''هيمنة اللغة الانجليزية في المجتمع الخليجي آخذة في الزيادة''، وأن ''أي انسلاخ أو تشويه يحدث في اللغة العربية لدى الطفل العربي في المجتمع الخليجي، نتيجة لهذه التأثيرات، ستكون له خطورته الكبيرة على مستقبل المجتمع الثقافي والحضاري وعلى مستقبل الأمة بأكملها''.

أمام هذه التحديات الجمة التي أفرزتها ظاهرة العولمة على واقع وآفاق تربية وتأهيل الطفل العربي، يبقى ضروريا تفعيل حدودا أدنى من لائحة التوصيات التي خلُصت إليها بعض الندوات والملتقيات التي نُظّمت في الموضوع بالمنطقة العربية خلال السنين الأخيرة، وبَدَهي، أن تنظيم هذه الندوات، يُجسّد إقرارا رسميا من طرف صناع القرار بأن الأمر لم يعد بالهزل، ويتطلب تدخلا مباشرا، لولا أن تضخم لائحة التوصيات، يزيد الأمور تعقيدا، وبالتالي، من اللازم اليوم، أكثر من وقت مضى، تفعيل أهم هذه الخلاصات، ونذكر منها على الخصوص، توصيات ثلاث:

ـ حتمية وضع استراتيجية تربوية تعليمية عربية وتطبيقها، بحيث تتأسّس على تطوير بنية ومناهج الأنظمة التربوية العربية، تُزوّدهم بالمعارف والمهارات اللازمة للتفوق في عصر العولمة، مع دعوة المجامع العربية إلى القيام بإجراء بحوث تتناول الرصيد اللغوي الوظيفي لكل مرحلة من مراحل الطفولة.

ـ تحليل طبيعة الصراع القيمي الذي يشهده الوطن العربي في علاقته بالأوضاع العالمية والإقليمية، مع العمل على مواجهة وضع البدائل للقيم السلبية المتدفقة من جراء التغييرات، والتعاطي الفعّال مع القيم الإيجابية؛
ـ وأخيرا وليس آخرا، التوفيق بين بناء ثقافة الإنجاز كنقيض لثقافة الاستهلاك، وبين تشكل الحصانة النفسية ومتانة الشخصية.

الكرة في مرمى صناع القرار، وأهل النظر والتّفكّر، من الغيورين على واقع ومستقبل الطفل العربي المعاصر، حتى لا يُصبح، مجرد مادة استعمالية، كما تسعى إلى ذلك، رياح وأسنة تيار العولمة الكونية، في نسختها الغربية الحداثية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي