الأسر الوظيفي وحقوق الإنسان
تُعد قضايا حقوق الإنسان من أهم القضايا المعاصرة, التي لا تزال تشغل أذهان المفكرين وفلاسفة الأخلاق منذ قرون، وذلك لأنها السند الذي يُسهم في تدعيم الحقوق الإنسانية للأفراد والمجتمعات، في شتى مجالات الحياة سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، أو في ظروف الحروب والصراعات. والأسرى هم الذين يقعون في قبضة عدوهم أحياء في حال الحرب، بمعنى أن الأسير هو الحربي الذي أسر في حال الحروب، وحيث يصعب على الإنسان أن يتصور نفسه رهين الأسر تحت إدارة الشلة المقربة القائمة على المصالح الشخصية والمحسوبيات.
وإذا نظرنا إلى حال فئة من الموظفين العاملين في مؤسسات القطاعين العام أو الخاص في وقتنا الحاضر، لوصفوا - إن صح التعبير- بأنهم كأسرى الحرب، حيث تجدهم محبطين ومهمشين ومضطهدين وظيفيا من حالة الغبن والظلم والفساد الإداري والقهر التي يواجهونها، أما غيرهم من الموظفين فهم مقربون ليس لأنهم الأفضل أو الأكفأ في أداء الأعمال وإنجازها, بل لأنهم الأقرب من الأسلوب المتبع في الإدارة، وبمعنى آخر الأقرب من النفاق والتملق واستخدام الطرق الملتوية والدوس على الآخرين في الوصول إلى خاطر المدير، وهذا التملق ذاته يتلون ويتشكل حسب المدير ذاته، لأجل الوصول إلى القمة, لكن على أكتاف الآخرين، باستخدام الكلمات المعسولة والتبجيل والاحترام المبالغ فيه لشخص ذاك المدير. أما الباقون من الموظفين المخلصين الجادين، لأنهم ليسوا من شلة المدير، فإنهم يعدون من ضمن قائمة الضد ''إن لم تكن معي فأنت ضدي''، فمن صفاتهم أنهم يحملون مؤهلات عالية وخبرة كافية وفكراً رائعاً، أما عيوبهم فهم لا يعرفون للمجاملة باباً ولا للتزلف والخضوع طريقاً، هدفهم تحقيق المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة، هذه العينة الخاصة من الموظفين يومهم الوظيفي يقتله الروتين الممل، فهم يسرحون إلى العمل صباحاً ويرجعون مساء، يومهم كأمسهم وأمسهم كغدهم لا جديد، رتابة وملل وفراغ وإحباط، لا يكلفون بأي عمل, ولا يتولون أي منصب، وقت زائد ومهدر وضائع، يعيشون داخل الهرم الإداري مهمشين ومهملين لا قيمة لهم, غيابهم كحضورهم, ووجودهم كعدمهم، مكانتهم في مرتبتهم، وضخامة رواتبهم، حتى يصبحوا في منصب مستشار لا يهش ولا ينش يقضي جل وقته في قراءة الصحف والمجلات وتصفح الإنترنت.
وأخيراً إن العلاقة بين الموظفين والإدارة علاقة تكاملية تفرض على كل واحد منهم احترام الآخر، في إطار من العقلانية والموضوعية والبعد عن المبالغة وتجاوز الحد الذي يؤدي غالباً إلى التزلف والتملق (النفاق الاجتماعي), الذي يهدف إلى تبجيل وتقدير كرسي المسؤول (المنصب) وليس المسؤول نفسه، وهذا يحصل من موظفين لا يملكون إلا أداة التطبيل بعديد من أدوات التضليل والدجل والخداع والنفاق، سعياً منهم إلى التقرب وكسب ود المسؤول والتأثير في الأحداث والقرارات والإجراءات الحالية والمستقبلية التي تنظم سير العمل في المنظمة. ومع الأسف أن بعضهم ينجح بدرجة كبيرة في ذلك, خاصة مع مسؤول لديه الجاهزية والاستعداد للتفاعل الإيجابي مع تلك الأدوات والكلمات المؤثرة في نفسيته, والانخداع بأساليب كثيرة من هذا النوع، ما ينتج عن ذلك طاقات وطنية مهدرة تم تهميشها وقتلها وظيفياً، بسبب إدارة فاشلة تُغلب الأهواء والرغبات والمصالح الشخصية على المصالح العامة. إن ضحايا ذلك كثيرون, ونتائج هذا العبث الوظيفي خطيرة لا تمس الأفراد وحدهم, بل تمس المجتمع بأكمله!