مدننا وسدّ النقص في الخدمات العامة

ما تبذله وزارة الشؤون البلدية ممثلة في أماناتها وبلدياتها المختلفة من مجهودات لسد النقص واستكمال الخدمات العامة والبنية التحتية جهد لحل مشكلة كبيرة, خاصة لمدننا الكبرى مثل الرياض وجدة والدمام وغيرها. وتم وضع خطة عمل جيدة ينقصها بعض الخطوات التي لا بد من ربطها بالمخططات الشاملة للمدن, والهدف من هذه المجهودات وصول الخدمة اللازمة لكل مواطن واحتواء حركة المرور داخل الحي ما يخفف الازدحامات والحوادث والتلوث ويوفر الوقت للمواطن, والحد من استقدام السائقين والعمالة الأجنبية. لكن مثل هذه الدراسات يجب أن تتكيف مع واقعنا وعاداتنا الحالية, التي نتوقع أن يتغير بعضها مستقبلاَ للأفضل إذا لم نستمر كمواطنين في الإسراف في استغلال تلك الخدمات أو عدم العناية بها والترشيد لاستعمالها. كما أن بعض عاداتنا الحالية مثل الاعتماد على السائقين والخدم والإسراف في شراء ما لا يلزم أو الإسراف في الولائم ومن ثم رميها في براميل النفايات, أو تدليع أبنائنا الطائشين للتجول في طرقنا دون حاجة, إنما لمضايقة الآخرين وزيادة الازدحامات والحوادث, جميعها لها سلبياتها, بل إنها عقبات للتخطيط وتنعكس على مدى قدرة الدولة على سد النقص في تلك الخدمات.
من جهتها, تقوم الهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض ممثلة في مركز المشاريع بدراسات لسد النقص في الخدمات, وهي أكبر وأنشط الجهات الخدمية الاستشارية في المملكة. وتركز الدراسات الحالية لديها على عمل مقارنة للمعاييرالمحلية والدولية لتتم الاستفادة منها بتحليلها بطريقة تتناسب مع معدل توفير الخدمات أو نطاق الخدمة لكل دولة مع الكثافات السكانية والعادات والتقاليد والظروف المحلية لكل دولة لمعرفة كيف وصلوا إلى تلك المعدلات ومن ثم اقتراح «معايير تخطيطية منقحة» خاصة بمدينة الرياض ليستفاد منها مستقبلاَ للمدن الأخرى, وهي دراسة نتوقع أن تكون متناسبة مع ظروفنا وعاداتنا.
وهذه الدراسة لا بد أنها ترتكز إلى المعلومات الديموغرافية لكل حي, فالمعروف أن توفير الخدمات لا يسير دائما حسب المعدلات المحلية أو المقترحة فقط، بل تتم دراسة ديموغرافية كل حي لمعرفة الاحتياجات الفعلية التي تتناسب مع سكانه وخصائصهم. فحي تقطنه عمالة أجنبية أو مصانع أو مستودعات وعزاب قد لا يحتاج إلى العدد نفسه من المدارس الابتدائية مثل حي سكني فيه مواطنون وعائلات. والأحياء التي فيها أغلبية من كبار السن احتياجاتهم والمسافات التي يسيرونها للخدمة تختلف, بل قد لا تحتاج إلى مستشفيات أو مستوصفات أطفال وولادة بقدر ما تحتاج إلى مراكز تأهيل صحي, كما أن هناك أحياء حسب ديموجرافيتها يكثر فيها ذوو الدخل المرتفع الذين لن يذهب أبناؤهم إلى مدارس الحي نفسه بل وجود مدارس في الحي سيسمح لحركة الدخول من الأحياء الأخرى.
وكذلك الحال لتوزيع الكثافات السكانية وأهميته، فقد تم دمج بعض الأحياء التي لا تتشابه في كثافتها أو ديموغرافيتها مع بعضها مثل دمج الملز والبطحاء أو وضع الشمال وحي واحد! أرى أن التوزيع لا بد أن يكون فيه نوع من التساوي حتى لو قسم الحي الواحد الكبير إلى حيين.
ومثل هذه الدراسة مجزأة إلى جزءين أو محورين أساسيين:
الأول: وهو الجزء النظري وهو ما تقوم به الدراسة الحالية مع الملاحظات الموضحة أعلاه.
الآخر: أن تتم دراسة المعدلات العالمية لكل نوع من الأحياء حسب ديموغرافيته, أي أن يتم النظر في التجارب الدولية للأحياء التي يكثر فيها العزاب أو التي يكثر فيها العجزة. أو الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية، كما تم إيضاحه أعلاه ومن ثم اقتراح معايير أو معدلات لتوفير الخدمات.
ونتوقع من الهيئة العليا بعد استكمال خطة العمل والوصول إلى المعدلات المنقحة أو الواقعية أنه يجب أن يتم النزول إلى مستوى الحي عن طريق بلدية كل منطقة في المدينة مع فريق عمل من كل جهة ليتم تحديد الاحتياجات الفعلية الحالية لكل حي بناء على الديموغرافية الحالية. وأن تتم محاولة (إذا أمكن) وضع استبيانات لسكان الحي لمعرفة مدى تقبلهم الخدمات المقترحة, وما الأولويات؟ أو على الأقل التحدث إلى شريحة عشوائية أو كبيرة تمثل الحي. فقد يتم بناء مدرسة ابتدائية لكن نجد أن رغبة أكثر السكان تدريس أبنائهم في مدارس خاصة خارج الحي. وبعد معرفة الاحتياجات الحالية يتم وضع معدلات وتوقعات لمدى الحاجة المستقبلية للحي حسبما يحدده المخطط الشامل للمدينة ومستقبل الحي, فبعض الأحياء قد نستطيع معرفة أنها قد تتغير سريعا لتصبح أكثر سكنية أو مكتبية أو تجارية بناء على المعلومات والخطة المستقبلية أو «المخطط الشامل» للمدينة, وحينها يمكن وضع معدلات واقعية لمدى الحاجة المستقبلية إلى الخدمات في هذا الحي.
فليس من المعقول أن نحاول توفير خدمات للحي وننفق الأموال لخدمات قد تبقى دون استفادة منها لسنوات, فهو هدر للأموال, كما أن بقاءها يحتاج إلى صيانة وحراسة وإدارة.
إذا فالأهم هو محاولة تحديد الأولويات حسب الحاجة الماسة لكل حي ولكل خدمة. وأن تكون هناك جدولة للتنفيذ حسب المعطيات المادية أو الميزانية بالتوافق مع أولويات الحاجة إلى كل حي. مع ملاحظة البدء في جميع الأحياء مرة واحدة ولكل خدمة.
آمل أن تصل الهيئة إلى آليات جيدة لتطبيق تلك الدراسة وأن نجد حلولا للأحياء السكنية التي فيها كثافة عالية عن طريق نزع ملكيات مبان سكنية أو شقق لتقليل الكثافة, وبالتالي تقل الحاجة إلى الخدمة ولتكون تلك الأراضي مساحات للخدمات.
كل هذه المجهودات تحتاج إلى إطار يتولى شؤون البنية التحتية مثل إيجاد وزارة للبنية التحتية نظرا لأهميتها, فالبنية التحتية تمثل العصب الشوكي وشريان الحياة لجميع أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات المتحضرة, ودونها لا يمكن تحقيق أي تطور أو رفاهية حضارية للمجتمع .. وهذه الحقيقة تؤكدها الدراسات والأبحاث القديمة والحديثة، كما تؤكدها الرؤية الواقعية والراشدة لما تؤدي إليه خدمات البنية التحتية من دعم وتكامل وربط لمقومات الاقتصاد.
والبدء في موضوع نفق يضم وينسق جميع الخدمات تحت الأرض بدلا من الحفريات المتكررة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي