العراق والهروب من الباب الصغير

عندما شاهد العالم النقل المباشر للحرب الأمريكية على العراق في عام 1991م لتحرير الكويت ظن كثيرون أن تلك الحرب هي بداية لعصر من الشفافية والمكاشفة التي لم تستثن شيئاً حتى إن كان هذا الشيء هو الحرب والمواجهات العسكرية وقتل الآلاف من البشر وتدمير كل ما تقع عليه الصواريخ والقنابل المحللة والمحرمة في المدن والأرياف والصحاري والغابات والبحار والأنهار.
الاستعراض الأمريكي المباشر في ذلك العام لم يكن سوى تكتيك جديد نجح في لفت أنظار المتابع عن الحقائق والأرقام المذهلة التي تمخضت عنها الحرب التي سقطت على أثرها أعداد هائلة من البشر بين قتيل وجريح, إضافة إلى الدمار الشامل الذي حل بالعراق وبنيته التحتية.
هذا النجاح فرض استخدام التكتيك نفسه في أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عندما تم التركيز وبشكل مباشر ومكثف على المباني المحترقة وعلى إعادة منظر الطائرات وهي تضرب البرجين من أجل شغل المتابعين عن كيفية انهيار البرجين اللذين تم تفجيرهما من أسفل ولم يسقطا نتيجة اصطدام الطائرات بهما، واستخدم أيضاً في الهجوم على أفغانستان وكذلك العراق اللذين دمرا عن بكرة أبيهما أمام أعين العالم الذي ظل يشاهد شفافية ومصداقية أمريكا ويختبر فاعلية أسلحة الدمار الشامل المملوكة للعراق بحسب الأكاذيب الأمريكية التي على أساسها شنت تلك الحرب.
شفافية أمريكا ومصداقيتها لم تستمرا طويلاً ولم تنجحا في الحربين الأخيرتين كما نجحتا في حرب سنة 1991 لأسباب متعددة من بينها انكشاف الكذب الأمريكي, وأيضاً وجود المقاومة الحقيقية القادرة على مواجهة القوة الغاشمة التي لم تستفد كثيراً من النقل المباشر لظهور وعي عند المشاهد اختلف عما كان موجوداً في السنوات السابقة.
اختلاف القناعات بين إنسان الأمس واليوم حتّم على الجانب الأمريكي تدارك المسألة والتعامل بشكل مختلف مع الوعي المتولد عند الجيل الجديد أو حتى القديم الذي فطن للعبة وبات أكثر دراية بها, ما اضطر الجانب الأمريكي إلى إعادة النظر في البث المباشر والاكتفاء بالتسجيل وانتقاء القنوات الإعلامية المسموح لها بمرافقة الجيش الأمريكي, التي تكون في العادة مملوكة لشخصيات سياسية مشاركة في التخطيط للحرب أو لجهات إعلامية موالية ومعروفة بتوجهاتها الاستخباراتية، والهدف طبعاً هو حجب الحقيقة عن العالم وترك الجيش الأمريكي يعمل ما يحلو له من دون مراقبة حقيقية قادرة على كشف الجرائم التي ترتكب ولا قياس مقدار النجاح أو الفشل على الأرض ولا حتى الكشف عن قوة وقدرات الطرف الآخر الذي يجب أن يظهر في الصورة وبشكل دائم على أنه يتكبد الخسائر.
من دون شك أو تشكيك في القدرات الأمريكية على إدارة الصراع بهذه الكيفية، نقر بأنها تمكنت من إبادة الملايين من البشر تحت ذرائع متعددة وبعيداً عن الأضواء التي لم تسلط على طريقة القتل, إنما اكتفت بوضع تلك الأعداد في خانة المنجزات التي حققتها القوات الأمريكية في غزوها لأفغانستان والعراق, حتى إن كان جل تلك الأعداد هي للمدنيين من نساء وأطفال وشباب وشيوخ ورجال عزل دهمتهم تلك الطائرات والقنابل والصواريخ والغازات وهم في قراهم وداخل منازلهم.
غير أن الشك والتشكيك الذي ما زال يلازم هذه القوة الغاشمة يكمن في قدرتها على التناغم مع هذا الصراع والتوفيق بين العمليات على الأرض والتصريحات التي ظلت صامدة طوال السنين الماضية. فالتحولات الأخيرة في المواقف الأمريكية, ولا أعني بها الصادرة من البيت الأبيض أو ما يتبعه من بيوت سيادية, تدل دلالة واضحة على وجود خلل في العملية التي ستكمل عقدها الأول من دون أن تفي حتى بجزء من وعودها التي من بينها درء المخاطر المباشرة عن الأراضي الأمريكية ومن ثم إحلال الديمقراطية بين تلك الشعوب وإيجاد حلول لقضايا المنطقة المزمنة.
من الواضح أن الولايات المتحدة تخوض فصلها الأخير في هذه الحروب المتشابكة التي لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى بدلالة التغييرات الأخيرة في قيادة العمليات على الأرض وكثرة التصريحات المتناقضة وأخيراً الهروب من باب العراق الصغير للقوات الباسلة ربما إلى أراضي الوطن أو إلى أفغانستان أو إلى المجهول!
ما كان في الظل طوال السنوات الماضية سيخرج للنور أخيراً وسيرى العالم أجمع حجم الفشل الأمريكي في العراق أولاً وليس في أفغانستان التي تدعي أمريكا أنها أهم بالنسبة لها من العراق. العراق الذي تنتظره بعد الانسحاب أو الهروب الأمريكي فصول كثيرة دامية لن يلبث بعد دفع فاتورة الفوضى التي أحدثها الغزو الأمريكي على أراضيه أن يعيد لملمة شتاته والعودة بسرعة من الباب الكبير الذي حاولت أمريكا وكل أعوانها وعملائها غلقه أمام هوية هذا البلد وأصله وفصله وعروبته التي أنكرت عليه وأيضاً دوره الريادي الذي من المفترض أن يعود ليلعبه كما كان دائماً.
ليس أثقل على أي قوة أو سلطة أو أي كيان من الهزيمة المنكرة في الوقت الذي ينتظر فيه الجميع النصر، وليس أتعس على أي قائد مهما كان حجمه أن يظهر بحجمه الحقيقي أمام شعبه بعد أن أوهمهم لأعوام بأنه كبير بحجم أحلامهم التي تحولت مع مغامراته إلى مجرد أوهام.
الأمن المائي والغذائي .. أيهما الأهم

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي