أشهد أن «لحوم العلماء مسمومة»
كثير منا يعلم بينه وبين نفسه على الأقل أن هناك انتقاد لممارسات الخبراء الشرعيين في الصناعة المالية الإسلامية. وكانت هناك جلسات مناصحة خاصة ومغلقة في الصناعة، إلا أن النقد ما زال مستمراً لأن الممارسات المنتقدة لا تزال قائمة. المشكلة في الموضوع أن عدم قبول النقد جزء من ثقافة مجتمعاتنا، ولا سيما إن كان النقد موجها إلى عالم شرعي. والمشكلة الأكبر أن هناك سوء فهم من حيث تصنيف العاملين في المجال الشرعي في الصناعة المالية الإسلامية على أنهم علماء، مع العلم أن كثيرا منهم لا يصنف نفسه على أنه عالم، بل خبير في معاملات التمويل الإسلامي وما يعرف بالهيكلة الشرعية. وعليه فإن النقد الموجه لخبير المعاملات الشرعية يختلف عن النقد الموجه للعالم، لكن السؤال الذي يبقى مثاراً للجدل يتمحور حول: ما مواصفات العالم غير العلمية؟
وعلني أوضح هذا الأمر بداية من مقولة ابن عساكر أن "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في كشف أستار منتقصيهم معلومة". فاللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أني أشهد أن لحوم العلماء مسمومة. واللهم إني أعوذ بك من أن أكون يوماً من منتقصيهم.
نعم، نحن أمة بحول الله تحترم ورثة أنبيائها وتجلهم. فتأملوا ــ رعاكم الله ــ مدى حبكم واحترامكم للإمام أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، ومدى إعجابكم بجَلَد ابن تيمية، ومثابرة العز بن عبد السلام. على هذه الشاكلة هم علماء أمتنا الذين نشهد بأن لحومهم مسمومة، والذين نذود عنهم ونقف في وجه أي شخص يحاول الانتقاص من قدرهم، ونفضح أستاره. وحتى نستطيع أن نتفهم الفرق بين العالم والخبير الشرعي في الصناعة المالية الإسلامية، يمكن أن نضرب عددا من الأمثلة لمواقف حصلت بالفعل في واقع الصناعة المالية الإسلامية ومن ثم يتم إسقاطها بشكل تخيلي على الأئمة العلماء السابقين؛ لنتخيل كيف سيجعلنا الموقف ننظر إلى ذلك العالم. مع التشديد على أننا نقر ونشهد بأن علماءنا المذكورة أسماؤهم في هذه المقالة هم أجل وأرفع من تلك المواقف.
تخيل أن.. الإمام أبا حنيفة عرضت عليه هيئة شرعية في مؤسسة مالية إسلامية فيحاول الإمام أبو حنيفة أن يقنع إدارة المؤسسة بأنه لا بد من إزاحة الإمام مالك عن الهيئة الشرعية من أجل تحقيق الانسجام في الفتاوى التي تتناسب مع سير العمل!!
تخيل أن.. الإمام الشافعي عضو في هيئة مجمع للمعايير الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية، وهم بصدد مناقشة معيار التورق مثلاً، ثم يقوم الإمام الشافعي قبل التصويت على المعيار بالاتصال بتلاميذه ومن هم مقربون منه من أجل أن يضمن أصواتهم في جلسة الغد التي من الممكن أن يعيقهم فيها أتباع ابن تيمية!!
تخيل أن.. العز بن عبد السلام يحمل ملفاً بيده ويجري رحلات ليسوق دوراته التدريبية الشرعية على معاهد التدريب ويقول لهم أنا العز بن عبد السلام وسعري في اليوم التدريبي لا يقل عن 2000 دولار!!
تخيل أن.. الإمام أحمد بن حنبل يحاول جاهداً أن يجعل العمل الشرعي في المؤسسات المالية الإسلامية حكراً على أهل العراق، فيقحمهم في المؤتمرات، ويوصي بهم لعضوية الهيئات!!
تخيل أن.. الإمام مالك يدعى لحضور ندوة فقهية في بلاد الشام على أن تتحمل الجهة الداعية تذاكر السفر، فيقوم الإمام مالك بالتوجه إلى الأندلس لقضاء احتياجات خاصة ثم يطالب الجهة المنظمة بتحمل تكاليف السفر من الأندلس، على اعتبار أن الإمام كان فيها قبل يومين من قدومه إلى بلاد الشام!!
تخيل أن.. الشافعي يدعى إلى مؤتمر فيطلب من الجهة المنظمة أن تتحمل تكاليف غرفة إضافية لابنه الذي حضر معه للسياحة وزيارة الأقارب!! ثم يمدد الإمام زيارته للقيام ببعض اجتماعات البزنس الخاصة فيترجى الجهة المنظمة أن تتحمل نفقات غرفته الإضافية في الأيام الإضافية!!
تخيل أن..اسم ابن تيمية وصورته يوضعان في كتيبات تسويقية تروج لمنتجات مالية إسلامية على اعتبار أن الشيخ أجازها وهي مثار للجدل عند علماء آخرين!!
تخيل أن.. العز بن عبد السلام يجلس على منصة في مؤتمر عام ويتلفظ بألفاظ سوقية، ثم يخرج ويتجول في باريس ببنطال جينز، وعندما يعتلي المنصة يعود ويلبس العمامة والجبة حتى "يحدث الأثر الانطباعي" في نفوس الماليين الغربيين فيعزز من حرصهم على وضع اسمه في هيئاتهم الشرعية!!
تخيل أن: تجمع لعلماء المسلمين يصدر فتوى لتحريم التورق ثم يأتي ابن تيمية ويصرح للصحافة بأن التجمع يفتقر إلى فقه الواقع، لأنه هو فقط من يعلم فقه الواقع بحكم أنه من قائمة الأكثر عضوية في الهيئات الشرعية!!
هل تخيلت أن هذا يمكن أن يصدر عن عالم؟ بالتأكيد لا.. حاشى وكلا أن يقوم العلماء بمثل ذلك، لكن لك أن تتأكد أن مثل هذه الأمور تحدث فعلياً في الصناعة المالية الإسلامية في الوقت الحالي. وحيث إنها من الممكن أن تحصل في أي مهنة أخرى مثل المهن القانونية، أو المالية، أو حتى الطبية، فالأفضل لنا أن نعتبر العمل الشرعي مهنة ومن يعمل فيها خبير شرعي، وبالتالي تكون الممارسات مبررة ومقبولة من ناحية مهنية تخضع للعرض والطلب والنضال من أجل المصالح الشخصية وكلها حقوق مشروعة من وجهة نظري...
وبالمحصلة فإن سلوك العالم هو الذي يجعل لحمه مسموما؛ فصبر ابن تيمية والإمام أحمد على السجن والأذى مقابل الصمود على الحق جعل لحميهما مسمومين، ورفض أبو حنيفة القضاء في عصر السفاح جعل لحمه مسموما.. وابتعادهم جميعاً عن شهوات الدنيا... وصمودهم على فتاوى الحق... وابتعادهم عن "تخييط" الفتاوى حتى تباع في السوق... كل هذا ــ وغيره مما تعرفونه ــ جعل لحومهم مسمومة. فاللهم اشملهم بواسع رحمتك واجزهم عنا خير الجزاء.
بالتأكيد هذا لا يعني أن العلماء معدومين من الصناعة، بل هم موجودون ولكن قلة وبأصوات ليست مسموعة، ببساطة لأن المؤسسات والبنوك ليس من مصلحتها أن يكون لديها عالم يشتري الآخرة بالدنيا. لكن الأمل يبقى موجودا بأن يتم إصلاح الوضع الحالي للعمل الشرعي في الصناعة المالية الإسلامية من خلال وضع قيود وضوابط وتنظيمات حكومية على (البزنس الشرعي)، وتنظيم الأعمال الفردية للمشايخ من خلال مأسسة العمل بما يضمن تقليص المصالح الفردية لخبراء الشريعة الذين مهما بلغوا من العلم يبقون أفراداً من بني آدم.