ثرثرة رجل منفرد

إن السياسة قلب من المطاط. ليس للعواطف، فرحاً أو ترحاً، مكان فيه إلا بقدر ما يسمح به قانون التبرير للمصلحة. وبالتالي فليس مجدياً التباكي حتى ولا بدموع التماسيح على الحالة المتردية التي ترزح تحتها المنطقة العربية.
فما حدث وصار ليس بسبب طاعون إسرائيل التي ولدت مع مولد معظم أناشيد الاستقلال والحرية لبلدان عربية عديدة. وليس بسبب استبدال المستعمر الأجنبي بالمستعمر الوطني، وليس بسبب التخلف العربي الذي هو صناعة عربية بامتياز، وليس بسبب كيد اللاتنمويين بالتنمويين، وليس بسبب مَن يحملون النفط لعنات مانشيتاتهم وبلاغاتهم، وليس بسبب أكذوبة ذكورية المجتمعات العربية أو حريميته، وليس لأسباب كثيرة بينها يمكن وضع كل الضمائر المتصلة أو المنفصلة، وإنما بسبب اختصار الأوطان بالأيديولوجيا عبر التزمت المفرط لمقولاتها ولكهنوتها السياسي الشاطب المقصي لما عداه، ما أيقظ النعرات وجعل الفتنة الغشيمة سيدة الموقف، فلم يبق الشقيق شقيقاً ولا الأمة أمة، زاغت العقول وغامت الرؤية فبات النظر والإنصات، لا إلى الأهل ولكن إلى الأغراب. استهلكتنا حالة اختصار الأوطان بالأيديولوجيا قرناً من الزمان، بإصرار مرعب على أن تكون رؤوس العرب وقاماتهم متساوية كأعواد الثقاب، نسخاً بـ “الاستنسل”، إنتاجاً بالجملة هشاً ورديئاً.
لم تستعبد الأيديولوجيا أمة وتختصر أوطانهم كالعرب، ولم تتطاحن أمة بالشعارات كالعرب في إدمان على صُنع الكارثة. فقد خرج “الروس” من سجنهم بعد 70 عاما، لكنهم كانوا قبلها أمة لها الصول والدور ثم عادت لتعلبهما، والصين التي قال عنها نابليون إنها “نائمة فلا توقظوها” استيقظت ليس من غيبوبة أيديولوجية أباطرتها وإنما من أيديولوجية “ماو” نفسه .. جعلت الأيديولوجيا نفسها خارج نفسها .. ووحدهم العرب، لا نمور آسيا، صاروا ولا بلغوا هذا الشغب الكوني لتركيا وإيران.
هل قلت تركيا وإيران؟! صحف العالم كلها تقول ذلك وتقوله أيضا نشرات فضائياته، إذاعاته، ندواته، محاضراته والدبلوماسيون المهرولون من قارة إلى قارة يقولونه حتى امتلأ باسميهما سماء الدنيا .. بسبب ماذا؟ بسبب الصراع على قيادة المنطقة أو حيازة أكبر دور لهما فيها .. ووحدهم العرب يتفرجون على المسلخ، ينقلون ما يقوله المحللون عنهم ويضاربون في بورصة التوقعات بأن ترجح كفة هذا التحليل أو ذاك، رأي هذا الخبير الاستراتيجي أو ذاك وكأنهم باتوا يعتبرون ذلك أمراً مقضياً وقدراً محتوماً، في مفارقة عبثية سوداء عدنا فيها إلى الغساسنة والمناذرة وإلى مزق دولة بني الأحمر في الأندلس .. إلى إدمان الأيديولوجيا بلكنة جديدة: وإن بذات النكهة: بعض يقول: العثمانيون الجدد قادمون، وبعض آخر يقول: بل الفرس الجدد قادمون .. وكأن ثمة فرقا في أن يكون “القيد” جديداً أو قديماً، حين تكون العقول، وليست الأعناق، هي المهيأة للأغلال.
هل قلت في البداية: ليس مجدياً التباكي؟ نعم، لكن، ما من بد، أمام هذا المشهد الجنائزي، من أن تطفر غصة نزار:
“تناثري كالورق اليابس
يا قبائل العروبة
يا نسخة ثانية
من أندلس مغلوبة”.
ملحوظة: العنوان لقصيدة للشاعر المصري الراحل كمال عمار، ديوان (أنهار الملح)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي