أوباما بعد عام .. لم يبق إلا الخطاب
ـ هناك أولا التيار الليبرالي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، الذي تلقّى ''صفعة مفاهيمية'' جاءت في الخطاب إياه، عندما استشهد أوباما بآيات من القرآن وانخرط في الثناء على الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلام، كما نوّهَ بالتسامح الإسلامي عبر التاريخ، بخلاف ما يصدر عن أغلبية رموز هذا التيار، الذي لا يتردد في تمرير خطاب الازدراء بالتاريخ الإسلامي ورموزه واستخفاف بحضارة الإسلام.
ـ وهناك ثانيا، تيار الحركات الإسلامية ''الجهادية''، أو التيار الإسلامي المتطرف، في شقيه السني والشيعي، بالصيغة التي جاءت في انزعاج رموز هذا التيار في عديد من التصريحات، ما دامت المعالم الكبرى لخطاب أوباما، اعتُبِرت، آنذاك، مقدمة لسحب البساط عن أدبيات شيطنة الولايات المتحدة وتهييج الجماهير بتلك الشعارات النارية والخطب الشعبوية، على غرار ما كان سائدا في حقبة جورج بوش الابن.
حُمّل الخطاب الشهير لأوباما أكثر مما يحتمل، ربما لفرط ''الصدمة'' من الانقلاب الجلّي الذي ميّز ثناياه، مقارنة بالسائد على عهد الرئيس جورج بوش الابن، أو لدلالات استشهاد أوباما بعديد من الآيات القرآنية، (حتى أن الخطاب قوطع مرارا بصيحات تُردّد ''نحن نحبك''!) فكان شبه الإجماع على حتمية الترحيب والتفاؤل بمرحلة ما بعد الخطاب، والانتظار الأكبر والمرجو للائحة من التطبيقات الميدانية على الأراضي العربية والإسلامية لبعض هذه المقتضيات، خاصة في مجالات السياسة الخارجية ودعم الديمقراطية.
ومن فرط ''الصدمة'' والدهشة، وعِوض تبني خيار التقزيم من أهمية الخطاب أو التشدد في تمرير الرؤى التفاؤلية، ارتأى عديد من مقالات الرأي المُحرّرة آنذاك طرح أسئلة واستفسارات، من باب الحديث عن ''خطاب علاقات عامة أم خطاب للتطبيق'' أو الاستفسار عن حدود ''إصلاح أوباما ما أفسده بوش''، أو الاستفسار الآخر عن أدوار الخطاب في الانتقال من ''كسر المسلمين إلى كسبهم''.
وفي غمرة سيادة قراءات التفاؤل والاستبشار، نسِيَ أغلبية المعلقين، من أهل اليمين واليسار، جملة من المقدمات الميدانية ''الصلبة''، التي كانت ولا تزال تُشكّل عائقا موضوعيا أمام تفعيل مُجمل الوعود الكبيرة التي جاءت في خطاب أوباما، ونذكر منها المقدمات التالية:
1ـ كان الرئيس أوباما آنذاك، ومعه أغلبية صانعي القرار الاقتصادي في العالم، منشغلين بتبعات الأزمة المالية العالمية وما تلاها من عواقِـب اقتصادية على أغلبية الدول العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ومن باب الرضوخ لمنطق ''براجماتية المقاصد''، ما زال هذا الهمّ الاقتصادي في مقدمة انشغالات الإدارة الأمريكية اليوم، ومُعرّض لأن يبقى كذلك اليوم، ومعلوم، أن إحدى أهم سمات العقل السياسي في المجال التداولي الغربي (الولايات المتحدة وأوروبا على الخصوص)، كونه يُغلّب الأخذ في الاعتبار مطالب الرأي العام من قضايا الداخل/الذات على قضايا الخارج/الغير، بحكم التأثير المباشر لهذه الاهتمامات في نتائج صناديق الاقتراع، ولن تكن الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عرفتها بريطانيا في مطلع أيار (مايو) الماضي، آخر النماذج التي تُترجم وزن وتأثير هذه الاهتمامات، وأهميتها في حسابات الربح والخسارة لدى صناع القرار، ولا يبدو لأي متتبع أن يكون أوباما، سيكون مرتاحا للمصير الذي كان من نصيب غوردن براون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، الخاسر الأكبر في هذا الاستحقاق الانتخابي.
2 ـ احتلت الأوضاع في العراق وفلسطين، وبدرجة موازية، تطورات الملف النووي الإيراني، أهمية كبرى، مقارنة بالأوضاع في فلسطين في صلب انشغالات الإدارة الأمريكية، وتمت تزكية هذه القراءة من طرف آرون ميللر، المساعد السابق للمنسِّـق الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط في عهد الرئيس كلينتون، الذي اعتبر صراحة أن ''الأولوية الأولى الآن لقضية إنهاء الحرب الأمريكية في العراق وسحب القوات الأمريكية، أما الأولوية الثانية، فستكون للملف النووي الإيراني''، في تقاطع جلّي مع ما صدر عن ريتشارد شتراوس، رئيس تحرير نشرة ''موجز السياسة الشرق أوسطية'' (والرجل للتذكير، سبق له العمل في اللّوبي الإسرائيلي الأمريكي المعروف اختصارا بـ ''الإيباك'')، واعتبر بدوره أن أوباما ''يُدرك أن الرؤساء الأمريكيين السابقين على مدى عقود، أخفقوا في التوصّل إلى تسوية سلمية للصّراع العربي ـ الإسرائيلي، ولذلك، فلن يجعل من عملية السلام في الشرق الأوسط أولوية متقدّمة على جدول أعماله في المنطقة''.
3 ـ أخيرا وليس آخرا، تضمن الخطاب الأوبامي الشهير مجموعة من المفاتيح التي تمّ إغفالها أو التقزيم من أهميتها في القراءات التفاؤلية الصادرة هنا أو هناك، حتى بصرف النظر عن تضمّن الخطاب عبارات ''التعالي الأخلاقي'' (من قبيل الحديث عن حقوق المرأة والأقليات الدينية، بما يُفيد أن المسلمين مُقصِّرون في احترام المرأة وحِفظ حقوق الأقليات..)، فقد أشار أوباما في الخطاب ذاته إلى أنه سيسعى ''شخصيا للوصول إلى سبيل يخدم مصلحة إسرائيل ومصلحة فلسطين ومصلحة أمريكا''، مضيفا أن ''هذه المهمة تتطلب التحلي بالقدر اللاّزم من الصّبر''، ولعل هذه الشهادة/الصراحة، تُعد الأكثر أهمية ومصداقية في آن؛ فمن جهة، يجب التذكير بأن صناعة القرار (الاستراتيجي مثلا)، في الولايات المتحدة، لا تقتصر على ما يطمح إليه حاكم البيت الأبيض، وبالتالي، إذا صدّقنا نيات الرئيس الأمريكي ـ وواضح أن الرأي العام العربي والإسلامي صدّق هذه النيات ـ فإنه علينا الأخذ في الاعتبار نيات باقي المؤثرين في صناعة القرار، وهي النيات التي لم تتوقف عند حيثياتها أغلبية القراءات الاستطلاعية أو التحليلية التي صاحبت تفكيك خطاب أوباما في القاهرة؛
ومن ناحية ثانية، كان أوباما صريحا وواضحا أيضا عندما أكد أن تحقيق ''المهمة'' سالفة الذكر (أي ''الوصول إلى سبيل يخدم مصلحة إسرائيل ومصلحة فلسطين ومصلحة أمريكا'')، يتطلب ''قدرا من الصّبر''، وواضح أيضا، أنه يصعب التدقيق في ماهية الحديث عن ''قدر من الصبر'' ذلك الذي ''تقتضيه هذه المهمة''، فقد يتطلب الأمر بضعة أشهر أو بضع سنين، إن لم يكن أكثر، وهو عين ما تُزكّيه وقائع الساحة، خاصة إذا أضفنا ثقل باقي المؤثرين الوازنين في صناعة القرار، وتحديدا، المؤثرين المتحالفين مع الكيان العبري، ويكفي في هذا الصدد استحضار أدوار ومهام مؤسسة ''الإيباك'' دون سواها!
تأسيسا على المقدمات الثلاث سالفة الذكر (الأولوية للشأن الداخلي، قلاقل الأوضاع في العراق وأفغانستان، قلة حيلة اليد الأوبامية وضبابية الأجندة الزمنية)، كان من باب تحصيل حاصل إذن، أن يصطدم الرأي العام العربي والإسلامي، بتواضع إنجازات أبسط الوعود التي جاءت في خطاب القاهرة، ولو اقتصرنا على الساحة الأمريكية فقط، فلم يتجاوز سقف ''الإنجازات''، اختيار المسلمة الأمريكية داليا مجاهد لتكون مستشارة لباراك أوباما في مكتب ''الشراكة مع الأديان''، واختياره المسلم الأمريكي رشاد حسين ليكون مبعوثه الخاص لمنظمة المؤتمر الإسلامي، مقابل المصادقة على لائحة من القوانين التي تُخوّل للسلطات الفيدرالية الأمريكية ملاحقة المؤسسات الدينية والخبرية للأقليات العربية والإسلامية، أو عدم تمكينهم من إرسال ما تمّ جمْعه من أموال الزّكاة إلى مُستحقِّيها في العالم الإسلامي، بحجة الاشتِـباه في وصولها إلى تمويل جماعات إسلامية أو إرهابية، وغيرها من الإجراءات التي ترجمت على أرض الواقع الأمريكي، قبل نظيره العربي والإسلامي، أهم ملامح التناقض الصارخ بين الوعود المُرَوّجة أمام العالم في خطاب القاهرة الشهير، والوقائع المُعلنة أمام العالم أيضا، تلك ما زالت تُميز تفاعل صناع القرار في البيت البيض (ومنهم الرئيس أوباما) مع قضايا عربية وإسلامية مصيرية، واللافت، أن هذه التطورات والقرارات تهم التفاعل مع ديانة يعتبرها أوباما ''جزءا من أمريكا''، بدلالة وجود سبعة ملايين مسلم، وأكثر من 1200 مسجد في جميع أنحاء الولايات المتحدة!
تأسيسا على الأرضية التفسيرية نفسها، نتفهم أيضا، الفوارق الجليّة بين حديث أوباما عن ''الروابط الثقافية والتاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل''، قبل منعطف خطاب القاهرة وبعده، وبين إقراراه الرسمي، في الخطاب نفسه، من دون أي التزامات سياسية أو عملية، من أن أوّل اعتراف رسمي بحكومة الولايات المتحدة لم يصدر عن حكومة أوروبية مسيحية، أو شرقية غير مسلمة، وإنما صدر عن حكومة المغرب المسلمة، أو أن العلاقة التي يريد تأسيسها بين الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية، تبقى ''أكثر من مجرّد علاقات ثقافية، دينية، لغوية أو رمضانية أو بروتوكولية''، وشتان بين الخطابين، بالصيغة التي تؤكدها وقائع الساحة في منطقة الشرق الأوسط، من باب تذكير أولي الأمر في الشرق والغرب، قبل تذكير وإيقاظ هِمَم الرأي العام في الشرق قبل الغرب هذه المرة.
وربما يكون خيار ''إيقاظ الهِمَم'' هذا، هو المقصود فيما صدر يوما عن تشارلز كراوتهامر، وهو أحد كتّاب الأعمدة في صحيفة ''واشنطن بوست''، وأحد الرموز الإعلامية لتيار ''المحافظين الجدد''، سيئ الذكر، الذي اعتبر يوما، مباشرة بعد منعطف اجتياح القوات الأمريكية العراق في نيسان (أبريل) 2003، أن أهم متطلبات الاجتياح الأمريكي، تتطلب ''ضبط عالم الإسلام، عبر كسبه أو كسره''، وإذا كانت أغلبية معالم السياسة الأمريكية على عهد الرئيس جورج بوش الابن، قائمة على خيار ''كسر العالم الإسلامي''، تطبيقا لمُخططات واستشارات رموز ''المحافظين الجدد''، فقد توهّم عديد من المعلقين العرب والغربيين، أن الرئيس الحالي يراهن، كما تبيّن نظريا على الأقل، في خطاب القاهرة، على ''كسب العالم الإسلامي''، لولا أن إبقاء الأمور على حالها في عديد من القضايا العربية والإسلامية المصيرية، يدفع بالمعلقين أنفسهم للتشكيك أولا في مصداقية الحديث عن خيار ''الكسب''، والبحث عن توصيف سياسة أمريكية جديدة، تقوم على ''طريق ثالث'' بين الخيارين، ليست بالكسر وليست بالكسب في آن!
وفي انتظار صدور ''خريطة طريق'' جديدة، تشرعن هذا ''الطريق الثالث''، لم يعد أمام صناع القرار في المنطقة العربية، سوى تطليق خيار/شعار ''الانتظارية''، كلما تعلق الأمر بالمعالم الكبرى للرئيس الأمريكي الجديد، ما دامت معالم صناعة القرارات الاستراتيجية، أكبر بكثير من التصورات النمطية المُرَوّج لها في المنابر الإعلامية العربية، وربما تكون حالة الرئيس الأمريكي الحالي نموذجا تطبيقيا يُشجع المسؤولين في المنطقة العربية والإسلامية على تطبيق هذا الخيار الانتظاري، ما دامت الوعود الكبرى التي صدرت عن رئيس القوى العظمى لم تجد لها مكانا تحت شمس باقي المؤثرين في صناعة القرار، هناك في الواشنطن دي. سي، وربما تكون صدمة عدم التزام أوباما بتحقيق تلك الوعود الأقرب إلى الأحلام، مناسبة وفرصة تاريخية تدفع بصناع القرار في المنطقة العربية على الأقل إلى التفكير الجاد في تفعيل إرادة عربية مشتركة تستبِق المتغيِّرات الإقليمية والدولية، أو على الأقل تتهيأ لها بشكل يحُول دون أن تنعكِس سلبا على تدبير قضاياها المصيرية، وما أكثرها بالمناسبة.