الأحلام .. عالم الغموض والإثارة

حتى ونحن نزداد في علومنا ومعارفنا إلا أننا نتراجع فكريا وثقافيا, ونزداد تخلفا في ممارساتنا وتتسع مساحة الفوضى في حياتنا, نحن أفلحنا في توظيف التقدم العلمي والتكنولوجيا الحديثة في مزيد من تجهيل المجتمع وتشويه الواقع واستحضار الماضي بكل تناقضاته وتغييب المستقبل بكل تبعاته وفرصه. استطاع الإعلام المرئي والقنوات الفضائية أن تشوه الأحلام كمفهوم وكإحدى الصور المهمة في حياتنا, فبرامج تفسير الأحلام تريد أن تعود بنا إلى العصور الماضية حيث كان هناك توظيف خاطئ للأحلام باعتبارها سلطة مهمة وقوية ومؤثرة في تشكيل حياة الناس الفردية والجمعية, فبعض المجتمعات كان لها رب خاص بالأحلام يحجون إليه طلبا لأحلام تنجيهم من شقائهم أو ترشدهم إلى حل مشكلاتهم, وكانت هناك دول وأمم تعطي لمفسري الأحلام مناصب وزارية كي تناط بهم مسؤولية تفسير أحلام قادتهم ووضع الخطط والبرامج وإصدار التشريعات التي يراد بها توجيه أحلام الناس لما يخدم أهداف الدولة وسياستها العامة, فكانت تتولى هي نشر الأحلام التي تمجد قادتها وتسقط معارضيها في أعين الناس, وكان من مهماتها أيضا اختلاق الأحلام, خصوصا في وقت الأزمات أو عندما تجد الدولة نفسها عاجزة عن تصنيع أو شراء أحلام حقيقية من الناس تصب في مصلحتها.
الأحلام طاقة من طاقات الإنسان المتعددة, فالجاهل يحترق بها والعارف يستنير بها في رحلته لمعرفة ذاته واستكشاف مجاهيل نفسه. ربما لأن الأحلام تخاطبنا بالرموز وبلغة غير مباشرة وغير مفهومة لكثير منا, كان هذا السبب وراء فهمنا الأحلام على أنها عالم تسكنه صور وأشباح لموجودات غايتها خداعنا أو إلحاق الضرر بنا. وحتى في حالة الأحلام السعيدة ووجود بشرى لحدوث شيء إيجابي في حياتنا فإننا نفهم ذلك على أنه مساعدة لنا أو تفضل علينا من قبل هذه الموجودات الشريرة في عالم الأحلام. يتمنى الواحد منا للآخر أحلاما سعيدة قبل الذهاب إلى النوم, لأن هناك خوفا في داخلنا من أن الكوابيس والأحلام المرعبة هي الأقرب إلينا.
فما حقيقة الأحلام؟ وهل للأحلام دور في حياتنا؟ وهل هناك في الأحلام فوائد تعود علينا, أم أن الأحلام مجرد صور وهمية وتخيلات ليس لها واقع ملموس, تنتجها النفس في غياب وعينا ونحن نيام, فهي ألاعيب وتوهمات نفسية تستولي على تفكيرنا عندما يخفف العقل حضوره وسلطته علينا؟ فإذا كان الإنسان يحلم بمعدل أربع مرات في اليوم الواحد وبمجموع يقترب من 1500 حلم في السنة الواحدة, وربما يصل زمن الحلم الواحد إلى نصف ساعة, فبالتالي ـ وبعملية حسابية بسيطة ـ نعرف أننا نقضي ما يقارب ست سنوات من عمرنا في الأحلام, فهل كل هذه السنوات من عمرنا مجرد عبث ولا فائدة لها في حياتنا أم أن في الأحلام أسرارا ننتظر من العلم أن يكشف لنا مزيدا من أسرارها وغموضها؟
إن الأحلام لها علاقة بالنوم, والنوم الذي نقضي فيه ربع حياتنا, ليس جزءا معطلا في حياتنا, بل إن ما يحدث في النوم من وظائف ومهام إن لم تكن بأهمية ما يحدث في يقظتنا فربما تفوقها في الأهمية والتأثير. النوم تسليم لأنفسنا بداخلها وخارجها لسلطة اللاوعي لترميم ما سقط وانهار, وتأهيل ما تعب, وتنشيط ما استنفدت طاقته من خلايا أجسادنا وعقولنا ومكامن الطاقة فينا. النوم, وإن كان فيه استرخاء للجسد وهدوء للنفس واستقالة للوعي, إلا أنه استرخاء يقابله نشاط روحي, وهدوء يقابله حراك في الفكر والخيال, واستقالة يقابلها حضور وسلطة للاوعي التي سلطتها تفوق سلطة الوعي بكثير. عالم النوم له خصوصية, وقوانينه غير قوانين اليقظة, والأحلام جزء مهم من هذا العالم, وتخضع لقوانينه وشروطه, فلغة الأحلام لغة رمزية, ولا يفهم طلاسم هذه اللغة إلا من عرف نفسه أولا. ويقول العلماء إن سرعة الأشياء في الأحلام هي على الأقل سبعة أضعاف سرعتها الاعتيادية, وبالتالي فقيادة الأحلام تحتاج من الإنسان إلى مهارة أكثر من المعتاد.
من بين كل الشروح والتحليلات التي يقدمها لنا العلماء والمختصون في العلوم النفسية نستطيع أن نذكر بعض الحقائق عن الأحلام وعن وظائفها وعن مدى تأثيرها في حياتنا.
1- ان الأحلام جزء من عملية النوم, وللنوم وظائف عدة منها تفريغ طاقة الانفعال عند الإنسان. الإنسان ينفعل مع الأحداث وهذا الانفعال ينتج عنه احتقان واختزان للطاقة, وهناك نوعان من الطاقة, إيجابية وسلبية, فالإيجابية لا بد أن يحولها الإنسان إلى فعل وأثر في حياته, لأن في بقائها وحبسها مرض يحطم الإنسان من الداخل, والأحلام هي المنفذ لخروج هذه الطاقة غير المتحولة إلى فعل حتى يتسنى لهذه الخلية أن تستعد من جديد لاستقبال طاقة إيجابية جديدة لعل الظروف تكون مغايرة فيستثمرها الإنسان في فعل يعود عليه وعلى غيره بالنفع. أما الطاقة السلبية فهي طاقة هدامة ويجب التخلص منها بأسرع ما يمكن حتى لا تجد طريقها إلى أماكن أخرى في الإنسان فتخربها وتفتك بها, والأحلام من أسلم القنوات لعبور هذه الطاقة السلبية المرضية إلى الخارج والتخلص منها.
2- إن الأحلام رسائل وخطابات من الشريك الآخر للإنسان, وهو العقل الباطن. يتعرض الإنسان لمشكلات وأزمات في حياته اليومية, وربما يحتاج إلى اتخاذ مواقف وانتهاج سلوكيات عليه أن يختارها من بين خيارات متعددة, وهذه كلها تضع الإنسان في حيرة من أمره حتى إن كان قد جمع كل ما يستطيع من معلومات تعينه على اتخاذ قراره وتحديد مساره, لكن الإنسان لم يترك وحده في هذه الحياة, فهو عنده نافذة وإطلالة نسميها العقل الباطن, ينفذ من خلالها نور يمتد إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعلى صهوة هذا النور تصل هداية الله وتوفيقاته وتسديداته لمعرفة أفضل الخيارات, أو الهداية إلى أنجع الحلول والأفكار التي ربما عجز العقل عن الوصول إليها. الأحلام إحدى وسائل تدخل العقل الباطن في حياتنا, فالطبيب وعالم الأحياء الكندي فريدرك اكتشف تركيبة الأنسولين بمساعدة حلم ربما لم تتجاوز مدته نصف الساعة من الزمن وهو الذي أمضى السنين الطوال مع زميله في المختبر وهو يجتهد ويكدح للوصول إلى مثل هذه التركيبة الناجحة.
3- هناك اعتقاد بأن الأحلام لها دور في العملية التربوية, فكثير من الآراء والرؤى والقناعات والأفكار تتم معالجتها نفسيا من خلال الأحلام إما لتوضيحها وتنقيتها ومن ثم تثبيتها في مخيلة الإنسان, وإما أن تكون النتيجة قيام النفس من خلال أحداث الحلم بمحاصرة هذه الفكرة أو القناعة للتخلص منها وتعطيل أثرها في سلوك الإنسان. ربما يقتنع الإنسان بفكرة معينة لكن ما يضعف هذا الاقتناع هو خوفه من المعارضين لفكرته, وهنا تتدخل النفس ومن خلال الأحلام بإحداث واقعة بينه وبين خصومه تكون له الغلبة فيها على هؤلاء المعارضين وعندها تزداد قناعته بأفكاره ويزداد هو ثقة بها وبنفسه وبشجاعته في مواجهة الآخرين. وهناك رأي يقول إن السبب وراء كثرة ما يحلم به الأطفال , فهم يحلمون أكثر بكثير من الكبار, بل إن نومهم في الغالب كله أحلام, هو أن هذه الأحلام ما هي إلا وسيلة رئيسة لنقل ما يراه هذا الطفل من صور في الخارج ومن ثم تثبيتها في داخل مخيلته, ولهذا يشدد التربويون على أهمية ما يراه الطفل من صور, فقد لا يفهم الطفل ما يراه من خلاف بين أبويه, لكن ما يراه من صور لعنف متبادل بين الطرفين ربما ينطبع في ذهنه وعندها يكون لها تأثير ملموس في المستقبل في حياته وعلاقاته الاجتماعية, والأسرية بالذات.
4 - الأحلام أداة للتواصل بين الناس, الأحياء والأموات, فالأحلام من اختصاص الأرواح, والأرواح لا تموت. الإنسان ما دام يختزن في داخله طاقة فهو له مقدار من التأثير في مجمل الحياة ولا يمكن أن يكون لهذا التأثير من وجود إلا عبر التواصل, والأحلام وسيلة من هذه الوسائل. ربما ينشغل الإنسان بمسألة تهمه كثيرا وقد تتيح له الأحلام أن يتواصل مع من يشاركه هذه الهموم والأماني أو الرغبات من الناس حتى الأموات منهم, وربما ينفع هذا التواصل في تنقل المعارف والخبرات وحتى التمهيد لبناء علاقات على أرض الواقع. ربما يفكر الإنسان في بناء علاقة مع إنسان آخر بمواصفات معينة لا توجد منها في دائرته المحيطة به وعندما يغذي الإنسان أحلامه بهذه الأفكار عن هذه الشخصية وعن مواصفاتها فإن هذه الأفكار والأحلام بما عندها من طاقة تدفع بالأمور والتوجهات النفسية من أجل إعادة تشكيل الواقع الخارجي بما يمهد للوصول إلى هذا الشخص المطلوب أو الوصول إلى النتيجة المطلوبة, ربما يسمي بعضهم هذا قانون المصادفة والحظ لأن كثيرا من أموره مخفية لا يعلمها حتى الإنسان نفسه. إن الأحلام صورة من صور انعتاق الإنسان من الواقع المحيط به والدخول في عالم آخر, وهذا العالم بقدر ما له من قوانين خاصة به عنده من الفرص والإمكانات ما يفوق عالم الواقع, لكن هذه الفرص والإمكانات متاحة بقدر ما نجتهد في الاستفادة منها, فبجهلنا وقلة درايتنا ربما تتحول هذه الأحلام إلى كوابيس تعود علينا بالهم والخوف والحزن, أما للمجتهدين منا العارفين بنفوسهم فإن هذه الأحلام رسل تدخل على الإنسان من نافذة عقله الباطن لمساعدتهم على الارتقاء بأفكارهم وأنفسهم, تبقى الأحلام من العوالم الغامضة, لكنه يبقى عالما متراميا ومثيرا لنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي