الدول .. والمجتمعات الهزيلة!
تنمو الدول وتتقدم بقدر ما تتمتع بها مجتمعاتها ونظمها من حيوية ونشاط واستقرار يدفعها ويساعدها على النهوض والنمو والاستمرار في التقدم وتحدي الصعاب, حتى إذا ما اهتزت هذه الصفات الأساسية في أي مجتمع فإنه يصبح عاجزاً عن النهوض ودفع عربة التنمية وحمل مسؤولياته. وهذه الحقيقة أدركتها جيداً الدول الاستعمارية قديما, التي تمكنت من استعمار دول أكبر منها والسيطرة عليها وإضعاف قدراتها وسلب خيراتها لسنوات عبر تحويلها إلى مجتمعات ضعيفة الإرادة وعاجزة الحيلة, فهذا إذاً أسلوب أثبتت التجارب عبر التاريخ نجاحه الباهر, لذا ما زالت تستخدمه عدد من الدول ذات الهاجس الاستعماري والرغبة العارمة في السيطرة والنفوذ العالمي لإبقاء بعض الدول تحت سيطرتها, خصوصاً تلك التي تشكل أي نوع من التهديد لها مستقبلاً أو الدول ذات الموارد الغنية طبيعية كانت أو بشرية أو ذات المواقع الاستراتيجية, وخذ مثلاً على تلك الدول التي تعاني مرض الهزال المجتمعي بعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية ومعظم دول إفريقيا وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق وأفغانستان, وكذلك الحال مع بعض الدول العربية, وعلى رأسها الآن العراق, فما مظاهر هذا المرض الذي يصيب المجتمعات ويضعف الدول ويحد من الحيوية؟
أما مظاهره فيمكن إجمالها فيما يلي:
1 ـ نظام سياسي عسكري دكتاتوري لا يثق بالشعب والشعب لا يثق به.
2 ـ الحروب الأهلية أو النزاعات العرقية أو الطائفية التي لا تهدأ.
3 ـ الجهل وكل مظاهر التخلف.
4 ـ الفقر والمرض.
وإن تأملنا بلادنا ومجتمعنا في ظل النظم العالمية, سنجد الأعداء والحاسدين والطامعين كثيرين, يختلفون باختلاف الأهداف والمآرب والأساليب, وقد أزعجهم ما تتصف به بلادنا من استقرار في النظام السياسي وتكاتف قوي وثقة جيدة بين الشعب ونفسه, والشعب والقيادة, ثم ما تتمتع به بلادنا من نمو سكاني كبير مقارنة بمعظم الدول الأخرى تتغلب فيه نسبة الشباب الذين هم عصب الأمة ولبنات بنائه الشامخ, ولعل ما أغاظ هؤلاء الأعداء أكثر هو هذا الحب الكبير الذي يكنه هؤلاء الشباب لمليكهم الذي يبادلهم هذا الحب بمثله مع بالغ الحرص على محاربة كل أنواع الجهل والفقر والمرض وكل صور النزاع والفرقة والفتنة, مع الدفع بكل الإمكانات لتطوير المجتمع وتحقيق أسباب الخير والرفاهية له, مع الحرص على قيمه الإسلامية الحنيفة وثوابته الراسخة، فمن أين إذاً يستطيع الأعداء اختراق هذه الحواجز؟ في الواقع يمكن أن أجمل الأسباب التي تُؤدي إلى ذلك مع تعليق مختصر, ومع التأكيد على أن بعض هذه الأسباب يقف وراءها أعداء الوطن وحاسدوه, لكن الأسباب الأخرى يقف وراءها أيضا إهمالنا أو عدم مبالاتنا، وفيما يلي أهم الأسباب التي تشكل خطراً بالنسبة لبلادنا:
1 ـ المخدرات: لعل الجميع يلاحظ الضبط المستمر بجهود المخلصين من أبناء الوطن العاملين في الجمارك والهيئات ورجال الأمن أطنان المخدرات بجميع أنواعها وبأخبث طرق الترويج وأصعبها كشفاً, وعبر التصنيع المحلي لتلك السموم التي تنزع آدمية الإنسان وتفقده عقله مع الوقت ليصبح جسداً خاوياً لا يستطيع أن يقوم بنفسه فكيف يعتمد عليه الوطن؟! والمسؤولية هنا تقع على الجميع بما في ذلك أولياء الأمور والمدارس والشباب أنفسهم الذين يجب أن يعوا خطورة هذه السموم وأنهم المستهدفون بسمومها في المقام الأول.
2 ـ التدخين: سم بطيء يفتك بمئات الألوف من أبناء الوطن وبناته ويباع علانية ويُسّوق له عبر الأفلام والمسلسلات وحتى الرسوم المتحركة العربية والأجنبية بشكل خبيث, ولعل الأرقام المتزايدة بشكل مخيف لمرضى السرطان والقلب الذين تزدحم بهم مستشفياتنا تعكس خطورة التدخين, وهنا لا بد من موقف جاد وقوي لمنعه منعاً باتاً في كل الأماكن العامة والمغلقة كما فعلت كثير من الدول منذ سنوات مثل كندا وبريطانيا, وهي تحتضن شركات ذات امتياز في تصنيع ''السجائر'' وترويجها عالمياً, كما أتمنى أن تعمل الجمعيات الخيرية وهيئات حماية المستهلك وكذلك حقوق الإنسان الوطنية على مقاضاة الشركات المصنعة والموردة والمسوقة لهذه السموم بصفتها تتعدى على حقوق الناس في العيش بشكل صحي وطبيعي وتسبب الأذى والأمراض عبر ''التدخين السلبي'' لكل من يستنشق دخانها النتن.
3 ـ الغذاء والدواء الملوث: لعل تقارير هيئة الغذاء والدواء, وهي هيئة سعودية حديثة نسبياً, كشفت المستور حول الأغذية والمياه الملوثة والأدوية المغشوشة والرديئة, وهذا يفسر الازدياد الكبير في المرضى, حيث كان المواطن قبل ذلك يأكل ويشرب من تلك السموم دون علم - وياغافل لك الله -وهنا تأتي أهمية دعم هذه الهيئة وتشجيعها, والأهم تعاون وزارة التجارة والصناعة معها من جهة لإيقاف تلك المنتجات الفاسدة وسحب ما يتسرب منها للأسواق, ومن جهة أخرى لمنع الاستيراد من الشركات المتورطة وحظر منتجاتها من دخول السوق السعودية لتكون عبرة لغيرها من الشركات, والبدائل ـ والحمد لله ـ كثيرة, كما تأتي أهمية دور الجمعيات الوطنية في مقاضاة تلك الشركات في الداخل والخارج بما يتناسب مع الأضرار المحتملة للمواطنين وما سببته من وفيات وأمراض بشكل مباشر أو غير مباشر.
4 ـ الهواء الملوث: كم تعج مدننا بالملوثات الطبيعية وغير الطبيعية, ويكفي أن تنظر إلى المدن الكبرى من الطائرة أو من أحد المرتفعات القريبة لترى هالة الأتربة والدخان، وهي تنبعث من مصانع الأسمنت ومداخن تكرير وتصفية البترول ومن عوادم السيارات ''الوسيلة الوحيدة للنقل, إضافة إلى العواصف الرملية، وأثبتت دراسة بريطانية أن الهواء الملوث يتسبب في موت أكثر من 50 ألف إنسان في عمر مبكر في بريطانيا رغم جمال الطبيعة لديهم وحرص الحكومة الكبير على تقليل ملوثات الجو, بل ورغم لجوئهم إلى استيراد المنتجات ذات التكرير الملوث للهواء من الخارج بدلاً من تصنيعها في الداخل, وأثبتت الدراسة نفسها - يدعمها كثير من الدراسات الأخرى, أن الهواء الملوث يتسبب في زيادة أمراض القلب والربو والسرطان وكثير من أمراض الجهاز التنفسي الأخرى, فمتى يعي المسؤولون الخطر ويتم نقل مصانع الأسمنت وغيرها من المصانع الملوثة بعيداً عن المدن وأماكن وجود السكان ويتم توفير وسائل نقل عامة تعمل بالكهرباء للحد من تلوث الهواء والمحافظة على الصحة العامة؟
ختاماً، لا شك أن السعودية تعيش طفرة تنموية كبيرة تدعمها حكومة متميزة, يقف على قمتها ملك متميز يحب شعبه وشعبه يحبه, يبني ويحن ويرعى بيد ويضرب بالأخرى بيد من حديد على من يحاول زعزعة الأمن وإثارة الفتنة, لكن لا بد من الوعي مبكراً إلى أن المحافظة على الإنجازات أصعب من بنائها, وهذا كله يتطلب مجتمعا نشيطا سليما معافى متعاونا تتفاعل مع حكومة تحرص على بقائه كذلك عبر تطوير النظم الصحية السليمة وتهيئة البيئة النقية والتشدد في محاربة المخدرات والتدخين ودس السموم في الغذاء والدواء وغيرها من المنتجات الاستهلاكية.