التفكير .. إصلاح وتجديد (2 من 2)
تحدثنا في المقال الماضي عن التفكير وكيفية إصلاحه من الأساليب الخاطئة, وفي هذا المقال نكمل ما بدأناه حول أبرز صور التفكير الخاطئة, وهي على النحو الآتي:
5- تأثير الهالة
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة في فئات معينة, ولذلك تجد بعضهم يتشبث بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه, وتجد بعض القادة في الجهات الإدارية يحدد البرامج بناء على معلومات بعيدة عن مبدأ احترام التخصص والفهم المستقل, وعندما يتفوق شخص ما في مجال ما فإنه يكون لنفسه هالة تترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين, وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية الاختصاص, ويسأل المعجبون بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في فهمهما ومعرفتهم, وهذا سر قيام الدعايات التجارية بجلب النجم الفلاني لدعاية منتج طبي نظراً لتأثر بعض الناس به تحت ضغط الهالة.
ومن النواحي القانونية نجد أن بعض المحامين أو القضاة أو المستشارين أو المحققين يقع تحت تأثير الهالة فتجده يشدد أو يخفف في القضايا التي لها صدى إعلامي وهالة واسعة, وينحرف بذلك عن السلطة القانونية سواء في النواحي الموضوعية أو الإجرائية, وكم سمعنا عن حبس أشخاص مخالفين للأنظمة, لكن تأثير الهالة الإعلامية أسهم في مجاوزة الحد النظامي في مدة السجن وحقوق السجين, ما جعل الإجراء المتخذ في حقهم أشد من الإجراءات المتخذة في حق أصحاب الجرائم الكبيرة, ولذلك فإن تصحيح التفكير وعدم الاستسلام والانبهار تجعل العقول دائماً متيقظة وتعمل في تقييم المعلومات الواردة إليها بتوازن بحيث لا يطغى جانب على جانب.
6 ـ المبالغة
من الأمراض المنتشرة مرض المبالغة, لأن بنيته فكرية ونفسية, فالإدراك القاصر وضعف المحاكمات العقلية يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه الأهواء والأمراض النفسية والانطباعات الخاطئة, والإشكال أن الأشياء لا ندركها بطريقة مباشرة وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي, ما يجعل رؤيتنا لها قابلية لكثير من الخصوصية, وبالتالي لكثير من الانحراف, وأهم مظاهرها:
ــ التضخيم في إعطاء الأمور حجمها وتبدو وكأنها كوارث, وهذا واضح عند بعض العاطفيين, لكن عند التأمل تبدو الأمور أقل بكثير مما نتصور.
ــ التعميم الافتراضي
كثيرا ما نعمم أحكامنا تجاه الأشخاص بناء على مواقف عابرة ليست هي الأصل, وأذكر أن أحد القضاة تكلم عن أحد أطراف الدعوى وأنه صاحب لجج وخصومة, ومع الأسف وقعت ضحية هذا التعميم الافتراضي, وفي أحد الأيام جلس أمامي هذا الرجل فإذا هو سهل لين الجانب لا تسمع منه إلا الكلام الطيب ولا يتكلم إلا إذا طلب منه, فانظر إلى المفارقات العجيبة في تعميم المواقف.
القراءات القاصرة
كثيراً ما تخطط الإدارات والوزارات بل الأشخاص على المستوى الفردي والأسري لكنهم يخفقون كثيراً بسبب عدم معرفتهم ببعض القواعد الأساسية في علم (الإحصاء), ومثال ذلك إذا أردنا القضاء على ظاهرة التسول وأردنا أن نحكم على أسباب هذه الظاهرة فإن علينا أن نعاين أكبر عدد ممكن, وكلما كانت العينة كبيرة وكانت عشوائية كان الحكم أقرب إلى الصحة وسيكون من الخطأ أن نحكم على أسباب تفشي هذه الظاهرة بأكملها من خلال مساءلة عدد محدود في منطقة معينة تختلف ظروفها وأحداثها عن بقية المناطق .
وإذا أردنا أن نعرف أسباب رسوب الطلاب في المستويات الأولى من الجامعات فلا ينبغي أن نعمم (استبانة) ونوزعها على الطلاب القادمين من المحافظات والقرى, بل لا بد أن يكون الاستفسار ذا طابع شمولي.
وعموماً فالقرارات المرتبطة بالأعداد المطلقة لا تعني أي شيء ما لم تكن مرتبطة ببعض الحيثيات المتعلقة بها, فإذا كانت حوادث السيارات في الهند تصل فيها الوفيات إلى ثلاثة آلاف شخص في العام فإن هذا يعد عدداً معقولاً في حين أن هذا العدد سيجعل بلداً مثل سنغافورة أسوأ بلد في العالم في هذا الجانب, والسبب هو الفارق الأساسي في عدد السكان الذي يزيد مئات المرات, وبناء على ما تقدم فإنه يلزم عند إصدار الحكم على أي شيء أن يكون هناك فحص دقيق لنوعية المقارنة والارتباط بين الأشياء المقترنة قبل إصدار حكم حولها, ولا سيما في المسائل الإنسانية والاجتماعية فنحن نستطيع أن نربط بين الرياح شديدة البرودة ودرجات الحرارة المنخفضة جداً, وبين تيبس أوراق الشجر وأعشاب الأرض على نحو يقيني لكن لا نستطيع أن نملك اليقين نفسه في التعامل مع قضية أسرية مثلاً أو قضية حقوقية مالية خاصة في ظل تهافت الناس على المساهمات الوهمية التي راح ضحيتها الكثير والكثير من الناس.
إن تعقيدات الزمان تتطلب منا ملاحقة مستمرة لأوجه القصور والخلل في فهمنا الأشياء وتعاملنا معها, وتذكروا أن التفكير المستمر يتيح باستمرار مشكلات جديدة في حياتنا المتسارعة ولن تكون هناك تنمية راقية وعيش حضاري ما لم يكن هناك تفكير صحيح وتخطيط استراتيجي سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.
أرجو أن أكون قد وفقت في وضع بعض المنارات المتعلقة بإصلاح التفكير وإبراز أهم صور الاعوجاج فيه, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.