إعادة الاعتبار للهيبة

تدهورت الهيبة، تمزقت، انهارت.. ما عاد الطالب يعبأ بالمعلم ولا الابن بأبيه! ليست المسألة حنيناً للماضي ولا هي هجاء للحاضر.. ما كان الأمس بأحسن من اليوم مهما كان حجم التبجيل له.. لكن كان ثمة في ذلك الماضي تراتب عفوي للمقامات، كانت الهيبة دائمة الحضور، الكبير بمنزلة الوالد أو الوالدة أو الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى، ثمة انصياع وجداني طوعي يستجيب بلحظة، ثمة توقير وامتثال، سمع وطاعة، لا خلط في المقامات، لا تجاوز للحدود حتى حين يهطل المزاح في المكان؛ يظل الكبير كبيرا.
ما الذي حدث؟ كيف انهار البناء؟ تدمدم بعضه فوق بعض، فتمرد التلميذ على أستاذه، الابن على أبيه، الأخ على أخيه، الابنة على أمها وأختها الكبرى. قد لا يكون في التمرد عنف ونزق، إنما قاب قوسين أو أدنى.. وأحيانا تقع الواقعة..
هل دجنت مناهج التربية الحديثة صرامة المعلم أم ضعضعتها توجيهات المشرفين بالنواهي والزواجر ومخاوف التوبيخ أو العقاب فوجد أن الأسلم له أن يلوذ بجلده؟ أم ترانا نحن - الآباء والأمهات - غررت بنا رخاوة المدنية وليونة العيش، فحاذرنا أن ننقل شيئا من صرامة الأمس إلى اليوم خشية تعكير صفو سلام أبنائنا النفسي، فإذا الابن يصعد متسلقا على سلم هذه الخشية يبتز مشاعرنا، بمطالبه اللا نهائية، بأسلوبه الماسح لمهابة المقام والمكانة.
لم يكن آباؤنا قساة غلاظا، - وإن بدوا حينها كذلك - فقد كانوا يغدقون حنانهم عمليا بتحسيسنا بسلطتهم كامتياز لنا - نحن الأبناء - الذين نستمد منها القيم والمثل والأعراف وما يصح وما لا يصح.
لا تتقاطع سلطة أب مع أب آخر ولا سلطة أم مع سلطة أم أخرى، فثمة قاسم مشترك للسلطة ذاتها تقريبا في كل الآباء وفي كل الأمهات، أما معلم الأمس فقد كانت له، فوق سلطته كأب افتراضي، مكانته الفريدة باعتباره مصدر العلم، الساحر الذي نتعرف منه على ما لم يكن بالإمكان حدوثه من دونه.
صغار الأمس كانوا حين يلتقون الرجل الكبير، تحضر عندهم سلطة الأب فيبادرونه بالسلام، لا ينادونه إلا بما يليق به من الألفاظ كالعم أو الخال، الأمر نفسه مع المرأة، أما حين يلمحون معلمهم في عرض الطريق، فقد يفرون من وجهه وهم يكادون لا يملكون رعدة تسري بأجسادهم من خشيته أو مهابته!!
ذلك كان يحدث لأنه لم يكن هنالك تقاطعات في نظام القيم والمثل .. أما وقد غمرتنا موجات التحديث الشكلية وصرعات المدنية، وغمرتنا أيضا ثقافة الاستهلاك، ليس للمظاهر المادية فحسب وإنما لموضات المناهج التربوية التي تجرب بنا ما إن يتم العمل بها حتى تستبدل بها أخرى، وكذلك الحال على المستوى الأسري والاجتماعي فقد تمت التضحية بالمعنويات لحساب المظاهر، وبدلا من أن يتم العمل على بناء شخصيات أبنائنا بمهارات مراعاة المقامات والحفاظ على المهابة إلى جانب المهارات العلمية، المعرفية، النفسية، العقلية والجسمانية تم تشجيعهم على إزالة الحواجز، والقفز على صلاحيات الآباء والأمهات.. تحت زعم بناء الشخصية المستقلة.. حتى أصبح أبناؤنا، بسببنا وبسبب التأثير المتعاظم لوسائل البث والاتصال والخيارات العديدة مما لم يكن أصلا في الحسبان، غير ما نريد تماما. يقودوننا ولا نقودهم، يشكلوننا ولا نشكلهم، خصوصا وقد باتوا أبناء الفضاء الإلكتروني فيما نحن أبناء جدول الضرب الصغير وجدول الضرب الكبير.
يتطلب الأمر للخروج من هذه الورطة وقتا طويلا وجهدا ثقيلا يبدأ بنا وينتهي بالمدرسة، لكن رافعته الأساسية: إعادة الاعتبار لمبدأ الثواب والعقاب.. ليس الضرب ولا التعنيف، إنما جعل الهيبة تأخذ مكانها بالتي هي أحسن: لا إفراط ولا تفريط!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي