علاقاتنا التجارية مع ألمانيا

لماذا جاءت مستشارة ألمانيا الأسبوع الماضي لمنطقتنا؟ قد يكون للزيارة جانب سياسي, لكن من الواضح أن الجانب الاقتصادي كان الأهم، وفيه موضوعان. الأول رغبة ألمانيا في حشد التأييد لموقفها حول قضية إصلاح النظام المالي الدولي الذي ستطرحه في المباحثات القادمة التي ستعقدها دول العشرين في كندا, فالدول الأوروبية ـ عدا بريطانيا - ترغب في وضع قيود تنظيمية لمنع تكرار ما حدث. وشرعت ألمانيا بالفعل في فرض قيود أحادية الجانب على المضاربات، فوضعت قيودا جزئية على ما يسمى البيع على المكشوف، وهي عمليات بيع سندات من قبل أشخاص ليسوا ملاكها ولا مقترضيها، كما قيدت المضاربات في السندات الحكومية الأوروبية باستخدام مقايضة العجز عن سداد الائتمان.
والموضوع الثاني أن المستشارة الألمانية جاءت وفي جعبتها ملفات اقتصادية ومشاريع تجارية ترغب في تسويقها، على الرغم من أن ميزان ألمانيا التجاري مع دول المنطقة يعكس فائضا كبيرا لمصلحتها. لكنها الرغبة في تعزيز فرص الشركات الألمانية للفوز بمزيد من المشاريع الاستثمارية والعقود التجارية في منطقة تصنف بأنها من أقل المناطق تضررا من توابع أزمة المال العالمية، ومن أكثرها قدرة في الوقت الراهن على شراء مزيد من المنتجات والخدمات الألمانية. وحرصت المستشارة الألمانية خلال الزيارة على التأكيد لكل من التقتهم على قوة الاقتصاد الألماني ومتانته على الرغم من أزمة ديون اليونان التي عصفت ببعض دول الاتحاد الأوروبي وهزت عرش اليورو بقوة! فمن يراجع طريقة عرضها وأسلوب تدليلها على قوة الاقتصاد الألماني لا يسعه إلا الإعجاب بدقة الشرح واختصار الطرح المشفوع بمؤشرات كمية رقمية موضوعية، فيما كان كلامنا يغلب عليه الحديث الإنشائي. لقد أراد الألمان من كل ذلك ترسيخ موقع التجارة الألمانية في المنطقة بعد ظهور بوادر منافسة قادمة من دول الشرق الصاعدة التي أخذت تفتح أبوابها وتقوي علاقاتها مع دول الخليج.
الاقتصاد الألماني ظل لعقود عديدة ثالث أقوى اقتصاد في العالم، وبعد صعود الصين ما زال هو رابع أقوى اقتصاد. وتربطنا مع ألمانيا علاقات تجارية قديمة وقوية، فألمانيا هي ثالث أكبر شريك تجاري معنا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 37.6 مليار ريال عام  2008. بيد أن هذه العلاقة التجارية تميل لمصلحة ألمانيا، فقيمة وارداتنا منها أكبر من قيمة صادراتنا إليها! وعلاقتنا معها تعكس عجزا تجاريا مستمرا، وهو أمر مقلق في عرف خبراء التجارة الدولية، يستدعي عمل الخبراء الاقتصاديين على فحص طبيعة هذه العلاقة التجارية في محاولة لاكتشاف تفاصيل خريطتها ومعرفة أسباب العجز والبحث في كيفية تصحيح الخلل فيها لتضييق الفجوة بين الواردات والصادرات, أو على الأقل عدم السماح باتساعها.
جاءت المستشارة ومعها ملف معد ومدروس سلفا حول طبيعة العلاقات مع دول المنطقة، يتضمن أجندة للموضوعات الاقتصادية التي يرغب الألمان في طرحها وتلك التي يتوقعون أن يثيرها الطرف الآخر أثناء المباحثات، جاءت ميركل وهي تعرف ما تريده، وما ستواجهه من ملاحظات، لكنها كانت مسلحة بأفضل أسلوب يحقق هدف الزيارة. كانت أهم ملاحظتين سمعتهما المستشارة ميركل في الدول التي زارتها في المنطقة هما: الشكوى من الفائض الكبير في الميزان التجاري الألماني مع دول المنطقة، والتأخير في مفاوضات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الذي استغرق أكثر من 18 سنة، وما زال يراوح مكانه. وأقرت المستشارة الألمانية بهذا الخلل وأبدت استعداداً مبدئيا لتأمين فرص استثمارية جاذبة والعمل على زيادة صادرات المنطقة لألمانيا وإزالة معوقات التجارة الحرة بين ألمانيا وشركائها التجاريين في المنطقة. لكننا لا نعلم كيف ومتى سينفذ هذا الوعد، وهل تم الاتفاق على خطوات محددة في هذا الاتجاه؟ فقد تعودنا من الدول الغنية إطلاق الوعود! إذ سبق لوزير التعاون الاقتصادي والتنمية الألماني ديريك نيبيل التأكيد على عزم بلاده على إقامة علاقات تجارية منصفة مع الدول النامية والفقيرة. وأقر الوزير الألماني أن من الأسباب التي تعطل التنمية في الدول النامية قيام الدول الغربية بوضع نفسها كمنطقة محظورة على بضائع هذه الدول من خلال رفع التعرفة الجمركية بهدف حماية بضائعها من تأثيرات صادرات الدول النامية وأغلبيتها كما هو معروف مواد أولية. حتى أن الوزير وصفها بأنها سياسة تعود بالخسارة والضرر على الدول النامية بصورة أكثر من المساعدات الإنمائية التي تقدمها الدول الغربية لهذه الدول.
يبدو لي أن المستشارة حققت هدفها من الزيارة، ففي أبو ظبي نجحت في الفوز بمشاريع إماراتية في قطاعات النفط والغاز والكهرباء والطاقة المتجددة والتعليم التقني والطيران المدني والسياحة. وأبدى الألمان اهتماما خاصا بدعم مشاريع البحوث الإماراتية المتعلقة بالطاقة البديلة النظيفة. ويبدو أنها عرضت علينا أيضا آخر تطورات التقنية الألمانية في استخدام الطاقة المتجددة وكيفية تخزينها، وكذلك ما يمكن أن تسهم به الخبرة الألمانية في مجالات التعليم والصحة والمواصلات والأبحاث العلمية.
كما حرصت الضيفة على لقاء يجمعها ووفدها المرافق برجال وسيدات الأعمال السعوديين على مائدة مستديرة (وهي من الناحية البروتوكولية طاولة يكون الجالسون حولها متساوين في كل الاعتبارات التي دعتهم للجلوس عليها أو من أجلها فلا امتياز لأحد منهم على الآخر) رغبة منها في تحسين سبل الاتصال بينهم وبين القطاع الخاص الذي سيكون بوابتهم لولوج الاقتصاد السعودي للفوز ببعض المشاريع التنموية الضخمة في المجالات المذكورة آنفا، وذلك عن طريق ربط مصالح القطاع الخاص المحلي بمصالح الشركات الألمانية.
براغماتيا وفي أية مفاوضات تجارية، تقتنص الدول عادة الجولات التي تستطيع من خلالها الضغط لتحقيق كل أو بعض مطالبها أو على الأقل دفع الطرف الآخر إلى النظر فيها بطريقة جادة وتقديم تنازلات، فهل فعلنا شيئا من ذلك؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي