السيادة: مفهوم شائك ومتعدد المعاني

هناك مسألة طالما كانت محل اختلاف الناس, وهذه المسألة هي تحديد من هو الـ ''ماستر'' أو المهمين في مجالات الحياة المتعددة, ففي السياسة الدولية اليوم هناك وجهات نظر متعددة, فأمريكا تقول إنها هي قطب العالم, فهي تقود العالم سياسيا, وهي تمثل أكبر اقتصاد عالمي, وهي التي لها الريادة في المجال العلمي والتقني, وهي بلا منازع القوة العسكرية العظمى على وجه الأرض, لكن هناك من يشكك في هذا الادعاء حتى من الأمريكيين ويرى أن عالم اليوم تقوده عدة دول منها أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي. حتى من يأخذ بادعاء زعامة أمريكا للعالم يرى أن هذه الزعامة هي زعامة ظاهرية, لأن هناك لوبيات المال من بنوك ومؤسسات مالية ضخمة هي التي فعلا تقود العالم سياسيا واقتصاديا. من يقود العالم ليس هو من يقود المفاوضات ويظهر باستمرار في نشرات الأخبار, إنما يقود العالم هو من يضع أجندة هذه المفاوضات ويفرضها على القادة والسياسيين, وإن كان هؤلاء لا يظهرون على نشرات الأخبار إلا أنهم هم من يصنعون الأخبار, وهم من يصنعون الرأي العام المحلي والعالمي. باختصار يقولون لنا إن عالم اليوم يقوده المال والاقتصاد ولا تقوده السياسة, وقادة هذا العالم هم مديرو البنوك والشركات الاستثمارية ورجال الأعمال, فليس هناك رجال سياسة إلا القلة منهم من لم تصنعه الدوائر المالية والاقتصادية.
حتى الإنسان مع نفسه هو في حيرة, فرجال الفكر يطالبونه بأن يكون عقلانيا وأن يسلم زمام قيادته للعقل, فالعقل عندهم هو الـ ''ماستر'' وهو السيد وهو القائد الذي يجب ألا تخالف أوامره. الحقيقة عندهم لا يصل إليها الإنسان إلا بالعقل, والصحيح من الأمور لا نكتشفه ولا نهتدي إليه إلا بالعقل, والخطأ لا نعرفه ولا نفرزه من بين الأمور إلا بالعقل أيضا, فالعقل عند هؤلاء المفكرين هو المصباح, فمن غير نوره يعيش الإنسان في ظلام دامس, يأخذ بالوهم والخرافات ظنا منه أنها الحقائق والوقائع, فالحياة من غير عقل تخبط وسير على غير هدى. ويرد على هذا الفكر بفكر آخر رافض الادعاء بأن العقل هو السيد وهو الـ ''ماستر'', فهؤلاء يرون أن العقل هو الوزير وهو المنفذ, لكنه وزير يأخذ صلاحيته من سيده الأعلى وهي الروح, فالروح ـ من وجهة نظرهم ـ هي التي تضيء الطريق للعقل وهي التي تشده إلى الأعلى, حيث القيم الإلهية العليا. صحيح أن هذا العقل ربما يتآمر مع النفس على الروح فيسجنانها ويحجران على نورها, لكن هذه السيادة العقلية هي سيادة غير شرعية, وهي زعامة أخذت بالانقلاب على من له الشرعية بالسيادة, وهي الروح, وبقاء الإنسان تحت ظل هذه السيادة غير الشرعية هي في النهاية دمار وخراب للإنسان, وما سيصل إليه الإنسان من فساد وخراب وطغيان هي التي ستدفع بالإنسان في النهاية إلى الانقلاب على سيادة العقل غير الشرعية ليعيد للروح مكانتها وسيادتها على حياته, وعندها سيعيش الإنسان بزعامة روحه التي تشده إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبإدارة عقله الرشيدة والحكيمة التي جاءت بفعل إقرار العقل بسيادة الروح. وهناك من ينحط بالسيادة على الإنسان إلى ما دون الروح والعقل ليسلمها للنفس بما عندها من هوى وشهوات وميول فطرية حيوانية, فالسيادة عند هؤلاء للشهوات والأهواء, وبالتالي فمن الطبيعي عندهم أن يندفع الإنسان ليعيش أنانيته ومصالحه الخاصة, وعلينا أن نتقبل منه أنه يعيش مشغولا, بل مستغرقا حياته كلها في إشباع حاجاته المادية وشهواته الحيوانية. الإنسان عند هؤلاء حيوان ذكي وليس بذلك الكائن العاقل الرشيد الذي تتمثل فيه صورة من صور الأخلاق والسمات الإلهية. وهناك من يعطي الزعامة عند الإنسان للقلب, فهؤلاء ينظرون إلى القلب على أنه المكان الذي يحتضن الروح, الذي ينطلق منه نور هذه الروح ليعم خيرها على الإنسان كله, فبمقدار ما يتسع هذا القلب لنور هذه النفحة الإلهية يتسع وجود الإنسان وتتحقق خلافته لله على هذا الكون. فهؤلاء الذين يرون أن القلب هو السيد يرون السيادة والزعامة لا تكون بحق زعامة شرعية إلا بالرحمة, والرحمة وجود فوق العدل, فالرحمة عندهم تنطلق منها كل الأخلاق, فما ينتجه العقل من علم وفكر وعدل يعيد إنتاجه القلب بما عند الروح من رحمة وعطف وتحنن فتصير كلها علوما وفكرا وعدلا في إطار إنساني, وبهذه الموقعية للقلب صار من حقه أن تكون له السيادة والزعامة في حياة الإنسان.
حتى المجتمع في إدارته لنفسه وأعماله ونشاطاته نجد هناك تدافعا في الرأي حول من له الحق في قيادة هذا المجتمع, فهناك من يرى أن من مصلحة المجتمع أن يقوده أفراد يدين لهم بالطاعة, وهناك من يرفض هذه الفكرة إطلاقا ويرى أنه ليس من حق أحد أن تكون له السيادة على المجتمع, فالمجتمع ـ من وجهة نظرهم ـ كيان اعتباري لا بد أن تسوده أيضا شخصية اعتبارية, وهذه الشخصية الاعتبارية عندهم هي القانون والنظام. فخير المجتمعات من سيكون سيدها القانون والنظام, أما عندما يستعيض المجتمع بالفرد أو بالمجموعة عن النظام فإنه لن يحقق لنفسه العدالة الاجتماعية حتى إن اجتهد في ذلك. فهؤلاء يدعون إلى تفعيل سيادة القانون والنظام, وذلك من خلال مأسسة المجتمع وجعل المجتمع يدار بمؤسساته وليس بأفراده, وهكذا تكون عندهم السيادة لشخصية افتراضية اعتبارية وهي القانون. وهناك من يتهم الثقافة الإدارية العربية بأنها ثقافة فردية سلطوية, ولذلك يقول الجاحظ إن العرب عندهم رغبة قوية للتسلطن على بعضهم, فالسيادة عندهم رغبة يتمناها كل فرد منهم, فكل واحد منا ـ نحن العرب ـ يقول اجعلوني سيدا ولو على حمار وإن لم يبق هناك على الأرض حمار لنتسلطن عليه فاجعلوني سيدا ولو على قطعة من الحجارة, لأن المهم عندي هو أن أكون سيدا ولا يهم على من أكون سيدا, بشر أم حجر, أموات أم أحياء.
وهذه الإشكالية في السيادة جعلت الإنسان في بعض الأحيان يخرج عن جادة الصواب. فعندما نظر الإنسان إلى هذه الحياة وما تحويه من خلق وإبداع وعظمة أراد أن يبحث عمن تكون له السيادة والهيمنة على هذه الحياة, فالمؤمنون كانت المسألة عندهم محسومة, فخالق هذا الكون ومبدعه هو من له الحق بالتفرد المطلق للسيادة على هذا الكون وما على الإنسان إلا أن يعيش في ظل عبوديته وطاعته وخضوعه لله خالق هذا الكون العظيم, بل لا تتحقق الغاية من خلق الإنسان ووجوده إلا بهذه العبودية المطلقة لله ـ سبحانه وتعالى. لكن هناك من نظر إلى الإنسان وهاله ما عنده من عظمة في الخلق وما بين يديه من إمكانات لا حدود لها قال إن الإنسان وإن لم يخلق هو نفسه هذا الكون إلا أنه السيد المتنفذ في الكون وبالاستقلال عن خالقه. هؤلاء الناس نظروا إلى عظمة الإنسان نفسه ونسوا عظمة الخالق, فظنوا أن الإنسان على ما عليه من عظمة صار عنده تفويض مطلق للسيادة, وما عرفوا أن بقاء الإنسان على ما فيه من عظمة كخلقه ابتداء هو من شأن الله الخالق والمبدع والمدبر. ولعل مصطلح خلافة الإنسان في الأرض هو بحق مصطلح عظيم يعطي الإنسان السيادة من جانب, لأنه هو فعلا مخلوق عظيم, ومن جانب آخر يقول له إن سيادتك هذه لن تنالها إلا عن طريق عبوديتك لي, ''يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه''.
إذاً, لا سيادة للإنسان إلا من خلال طريق تعبده إلى الله, لكن طريق التعبد هذا لا يمهده للإنسان إلا شيئان, هما التخلص من الجهل وترك الظلم, فكلما أخذ الإنسان بالعلم ونفض عنه غبار الجهل وابتعد عن الأوهام والخرافات فإن هذا العلم يصعد بالإنسان إلى مراتب أعلى في سلم السيادة, وكلما تمسك الإنسان بالعدالة مع نفسه ومع غيره وما يحيط به صار ذلك الإنسان أو ذلك المجتمع العادل أو تلك الأمة العادلة سادة على غيرهم, والأهم من ذلك تحققت لهم السيادة على حياتهم. وخير مثال على ذلك نجده عند الأمم المتطورة والمتقدمة, ففي الأول أخذت بالعلم وعلت على غيرها بما عندها من علوم فتحت بها كنوز الطبيعة وكشفت عن كثير من أسرارها لتوظفها للارتقاء بنفسها, لكنها كانت تتعامل مع الطبيعة ومع غيرها من الأمم الأخرى باستعلاء وظلم ولما أحست بأن هذا الظلم للبيئة الطبيعية سيطيح بسيادتها حتى وهي في قمة التقدم العلمي أخذت ترشد من علاقتها بالبيئة وبدأت مسيرة العودة للتعامل بعدالة مع البيئة, لأن بقاء سيادتها لا يدوم مع الظلم, ومن هنا انطلقت فكرة التنمية المستدامة, وهي في الحقيقة التنمية العادلة. وهل اهتمام العالم اليوم بحقوق الإنسان بداية العودة للتخلي عن ظلم الآخرين؟ إن هذا ما يأمل فيه الجميع, فالعلم يجرد الإنسان من الوهم والعدالة تعتق الإنسان من الأهواء وعندها فعلا يستحق الإنسان أن يكون السيد أو الـ ''ماستر''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي