قوى التضامن العالمي .. حصار غزة يحاصر إسرائيل
تقول قصة إسرائيلية قديمة إن شابا ضعيف البنية, ويعيش حالة انكسار نفسي كبير وإنه يعيش حياة منبوذة اجتماعيا, وإنه لا يقوى على مواجهة الآخرين, وفي أحد الأيام ذهب إلى الكاهن يشكو مشكلته في الضعف والانكسار, وقوة الآخرين.
فوضع الكاهن أمامه أربع محطات رئيسة للتخلص من مشكلته, الأولى أن قوة الآخرين ليست ناجمة عن إمكاناتهم الداخلية, إنما ناجمة عن ضعفك أنت, والثانية يجب أن تؤسس لمعيار ثابت أنه إذا شتمك أحد فإنه لا يؤذيك لكن عليك أن تقتل ثلاثة من أبنائه كي تعلم الآخرين درسا ألا يعترضوك, والثالثة عندما تمتلك القوة والقدرة على القتل لا تأبه بالقانون, لأن القانون لمن يمتلك القوة, والرابعة عليك ألا تأمن الوقت, وأن تبقي يديك على الزناد حتى أنت تتحدث عن الأمن والتعايش والسلام, لكن عليك أن تحسب خطواتك جيدا, فغلطة الشاطر ـ كما قيل ـ بألف وغلطتك أنت بمليون .. وهذه هي إسرائيل وهؤلاء نحن العرب .. فهل نستفيد من أخطاء إسرائيل؟
عندما لا يجد الفرد أو المجتمعات أو الدول القدرة على إحداث التأثير الفعلي, وتعيش في حالة من العجز المطبق, فإنها تنتقل سلوكيا ونفسيا إلى منطقة أخرى تستبدل فيها أدوات الفعل الحقيقية بأدوات صوتية تتمثل في الشجب والإدانة والاستنكار, تخرج فيه مكبوتها الصوتي لتعود من جديد إلى حياتها العادية تمارس أيامها دون أن يشكل ذلك لديها انعطافة نفسية حقيقية ولو على مستوى الانتقال إلى العمل الواقعي القابل للتنفيذ الذي استشهد من أجله ممن كانوا على متن سفينة الحرية, الأمر الذي يجعل الشعوب والمؤسسات والقوى الشعبية الإسلامية والقومية تقود الشارع العربي, ما يؤكد أن الحكومات تعيش حالة تقييد كبيرة بينما تتفاعل الشعوب مع قضاياها إلى درجة الافتراق والاختلاف بين الجانبين الرسمي والشعبي, لكن تراكمات الحالة الشعبية سينعكس على قوة الاحتكاك بين الحكومات والقوى الشعبية من جانب وبين قوى المقاومة والتنظيمات المدنية والطوعية في دعم صمود أهل غزة.
المشكل أن الفضائيات فتحت الأبواب عاليا لكل من يمتلك قريحة شتم إسرائيل وأمريكا والنظام السياسي العربي, وسمعنا أشكالا كثيرة من الإدانة الرسمية والشعبية, وأتقن الجميع فن الإدانة, لا بل سمحت الدول العربية لمظاهرات مرسومة ومنضبطة, للتنفيس ليس حبا لفلسطين أو دفاعا عن غزة, فحرب غزة الأخيرة قتل فيها الآلاف, واليوم الذاكرة العربية لا تكاد تستجمع بعض تفاصيل المشهد المأساوي الذي قامت به إسرائيل, فنسي الناس المشهد وتجاوزوا عن الألم كأن العربي يعيش بذاكرة مثقوبة.. وهكذا تتعود النفس على نظام حياتي .. يقتلوننا ونشبعهم شتما, بينما هناك من يهدف إلى إحراج النظم العربية باستخدام المجتمع المدني كأداة فاعلة لبيان ضعفه, وبيان سلامة نيات الدول الداعمة.
اللافت للانتباه أن الظاهرة السيكولوجية العربية أصبحت أشبه ما تكون بنظام حياتي تدركه إسرائيل مسبقا وتدركه قوى إقليمية لها مطامح في المنطقة .. شتائم وولائم إعلامية, لكن إسرائيل تدرك أيضا أنها آمنة والإنسان العربي مع المقاومة في لحظة هطول الدم والموت بالجملة, يدعمون مقاومة الشعب الفلسطيني من منازلهم وبيوتهم, ينفعلون ويصرخون وتتضاعف نسبة التدخين لبعض المدخنين, لكن في المحصلة القاتل حقق أهدافا رئيسة وهي: الأول مادي بقتل ما لا يقل عن 10 أشخاص على متن أسطول الحرية, والثاني أنها منعت المتطوعين من تحقيق هدفهم, والثالث غيرت اتجاهات الأحداث في المنطقة, والرابع تعمل باستمرار على إحراج العرب كنظام رسمي وإظهاره كنظام عاجز سياسيا. البناء السيكولوجي العربي مؤلم في تحولاته النفسية والفكرية, إذ يعيش حالة انفصام عامة وحالة تشتت وتشظٍ فكري, فهو مع مقاومة حزب الله لإسرائيل, لكن هذه مقاومة تتلقى دعما من إيران صاحبة الأجندات الخاصة في المنطقة, صاحبة المشروع الشرق أوسطي الإيراني الكبير, هو مع المقاومة في العراق لكنه ضد القتل الجماعي والاقتتال الطائفي, هو مع حماس لكنه يدين حالة الافتراق بين الشركاء الفلسطينيين, وكأن لا وجود لحالة نموذجية عربية, حتى الدول العربية يركب خطابها الموجة السياسية والإعلامية, فبعد الجريمة يتحرك الناس لقطف نتائجها أو الاستفادة من الحدث وتجييره لمصلحتها, قطر تدعو لفك الحصار عن غزة, وإيران تدعو لدعم غزة ودعم المقاومة, والجامعة العربية تجتمع وتصدر بيانا شديد اللهجة, ويمضي الحدث كما مضت جريمة غزة نفسها.
لماذا هذا الوهن؟ وهل صحيح ما يقال إن السيكولوجيا العربية تم ترويضها بحيث تكون قابلة وقادرة على امتصاص الأزمات بلعن إسرائيل وكفى؟ من خطط لجعلنا أناسا فاقدين القدرة على التأثير؟ ما الحدث الذي يثيرنا ويعمل على تغييرنا؟
هذا السؤال يحتاج إلى إجابة تتعلق بالمقومات النفسية العربية, فرغم حالة الشجاعة العربية المعروفة, إلا أن هناك ضحالة كبيرة في الحراك في التأثير الواقعي, وفي أن تكون هناك مخاوف إسرائيلية وإقليمية وأمريكية من استثارة مشاعرنا, لماذا كان لحادثة الرسومات المسيئة لنبي الرحمة وقع خاص عندما هددت مجتمعاتنا بمحاربة ومقاطعة المنتجات الهولندية, كون دول العالم تعرف ما الذي يؤثر فيها, وما يؤثر فيها هو الاقتصاد أولا.
كيف تتغير بنيتنا النفسية ونصبح قادرين على التأثير دون زج الموقف الرسمي في هذا التحرك الشعبي, لإدراكنا حقيقة العلاقات الدولية وتعقيداتها, لكن من يمنعنا مثلا من التوقف عن شراء منتجات الدول التي لا تعاقب إسرائيل على فعلتها تلك؟ لو تمت مقاطعة منتجات الدول التي ستحول دون صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يفتح بموجبه الحصار على غزة.
القوة الناعمة الحقيقية هي قوة فاعلة ومؤثرة, لكن كيف تكون القوة ونحن نرى أن أغلبية مؤسسات المجتمع المدني العربية تتلقى تمويلا من منظمات أمريكية وأوروبية وتقدم خدمات معلوماتية هي أقرب إلى الوكيل الاستخباري؟ كيف سيعمل هذا الوكيل ضد مصالح الممولين؟ وكيف لنا أن نقتنع بأن مؤسسات المجتمع المدني هي الوسيط بين الدولة والمجتمع وهي تتمول من الخارج؟ كيف يثق الحاكم بهذه المؤسسات وهي تستقوي بالأجنبي, لا بل تخضع له وتعمل ضمن أجنداته؟ كيف لنا أن نفهم وأغلبية تلك المؤسسات هي من شخصيات كانت ذات يوم على تقاطع أيديولوجي مع أمريكا وإسرائيل وباتت اليوم في أحضانه؟
إذاً إسرائيل آمنة ومطمئنة كثيرا, فهي لم تقتل 10 أشخاص فقط على سفينة الحرية, بل هي تحاصر 1.5 مليون فلسطيني في غزة, هي التي قتلت آلاف الأطفال الفلسطينيين في غزة, والعرب يبحثون عن سلام مباشر وغير مباشر, وينتظرون أن ينهي المبعوث الأمريكي جورج ميتشل جولاته لعله يحدث تغييرا في الفهم الإسرائيلي للسلام, لعله يحصل على موافقة إسرائيلية للقاء بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو, فيما تستمر الأحاجي الأمريكية, لقاءات في البيت الأبيض وبيانات لا أكثر.
عندما فاوض غاندي بريطانيا قبيل رحيلها من الهند آمن غاندي بأن الاقتصاد هو الطريق الرئيس لمقاومة بريطانيا فدعا الهنود لتبني سياسة ''احمل مغزلك واتبعني'' فضرب عصب التجارة البريطانية, رفض العنف, لكنه صاغ بديلا استراتيجيا هو اللاعنف, لم يستعجل رحيل بريطانيا, لأنه آمن بضرورة خلق قيم وطنية هندية عامة للهنود كافة رغم اختلاف ثقافاتهم وتعدد هوياتهم وأديانهم, وعندما التقى مبعوث الملك البريطاني استأذنه في وضع قليل من الملح على الشاي المقدم له, ما أحرج نائب الملك البريطاني مذكرا إياه بثورة الملح الشهيرة, مذكرا إياه بقدرة المجتمعات على تطوير وسائلها لإحراج إمبراطورية لا تغيب عن وجهها الشمس.
محاربة المستعمر أو مواجهة الضغوط السياسية الخارجية ليست عملا سياسيا فحسب, إنما هي ثقافة تتم ترجمتها سريعا وعاجلا عندما ترى الشعوب بحسها الوطني أن بلدها ووطنها يتعرض لضغوط كبيرة, ففي الهند ثقافة شعبية للمقاطعة, فقد فرضت بريطانيا منتجات معينة على الهنود لكن الشارع رفضها فتعفنت وألقيت في أكوام النفايات, وعندما أرسلت بريطانيا مساعدات إنسانية رفضها الهنود وهم يموتون جوعا فقط من أجل أن تفهم بريطانيا أن لهذا الشعب إرادة مستقلة.
كيف سنقاوم إسرائيل وفي السلطة الفلسطينية 2500 منظمة أهلية مدنية هادفة إلى ترويض المجتمع الفلسطيني واستلاب إرادته, تتلقى دعما من مؤسسات دولية أوروبية ومؤسسات يهودية, تهدف إلى تغيير البناء النفسي وإجراء عمليات غسل شاملة تتوطن فيه النفسيات على وجود إسرائيل الطبيعي وليس القسري, فيما عملت أمريكا والغرب عموما جهدهم الكبير في تغيير الخريطة الذهنية والنفسية لعقل مصر لجعله قابلا للسلام مع إسرائيل, ولإيجاد مؤسسات مجتمع مدني جديدة تصبح طبقة وسلطة ثقافية وفكرية في مصر؟
من مجموعة كوبنهاجن وعرب السلام والسلام العربي وجائزة بوكر العربية الإسرائيلية كما تشير الدكتورة ناديا خوست, إلى التخطيط الإعلامي المشترك, إلى التلاعب بالعقول وإخضاع العربي لمرحلة من عدم الاستقرار النفسي والانفصام السياسي مرة بينه وبين نفسه وأخرى مع مجتمعه ومع حكوماته, وإفساد أي فكرة بجعلها ليست ذات قيمة, وتشكيكه في رموزه على أنهم كانوا على علاقة سرية مع الآخر, علاقة غير مشرفة, والتحكم الإعلامي فيه مرة بمسلسلات محو الإرادة, وأفكار عارية, وتسليع الثقافة, وفوضى الفتاوى الخلاقة ليعم التشكيك كل شيء حتى الثوابت والمقدسات, هذه الحالة تحكم الإنسان العربي اليوم تهمش فيه إمكانية التفكير العقلاني وتبعده عن إمكانات التفكير الاستراتيجي بحرف مساراته, فعبد الناصر وصدام في الإعلام أبطال وخونة في الوقت ذاته, حتى شخصياتنا التاريخية ينالها نوع من التزوير بقراءات بأثر رجعي أو بمحاكمتها بمعايير العصر المادية. ما فائدة القانون الدولي إن لم يجد آلية للتطبيق؟ ولماذا يطبق دائما على المظلومين والمعتدى عليهم لا على المعتدي والظالم؟ لماذا ازدواجية المعايير الدولية؟ وهل نتوقع من عالم مزدوج المعايير السياسية أن يسهم في تعزيز الأمن والعدالة الدولية وأن يعمل على تعزيز الأمن والسلم الدوليين؟ لماذا هذا التراجع في القيم الدولية فيما يتعلق بإسرائيل وبالقضية الفلسطينية؟ وهل يفهم الغرب عموما وأمريكا لغة غير لغة المصالح؟
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نطلب من أمريكا والغرب كسر الحصار على غزة أولا ولا يكون هناك جهد عربي لكسر الحصار؟ وهل قمة المقاومة العربية في طرح مبادرة للسلام يجري ترحيلها من قمة إلى أخرى منذ عام 2002 مع إجراء وإدخال بعض التنازلات والتعديلات؟ لماذا الخوف من سلطة القانون الدولي رغم ازدواجيته التطبيقية؟ لماذا لا تؤسس قيم مقاومة مدنية جديدة سلمية تتم فيها مقاطعة المنتجات الأمريكية والغربية؟
السؤال الفلسطيني اليوم هو: هل يبادر الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة غزة ووقف عملية انقسام القرار الوطني الفلسطيني؟ أن يتم تجاوز الخلافات, وتأكيد وحدة الصف الفلسطيني, ليختلف الفرقاء لكن ليلتقوا على مصالح شعبهم ووحدته الوطنية في ظل الدعم الدولي لحقوقهم, واستنكار الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي الجريمة الإسرائيلية, وبكسب القضية الفلسطينية حضور قوى رئيسة إقليمية كتركيا على الخصوص وإيران مع بعض التحفظات.
كيف يمكن التخطيط الفلسطيني المشترك لفك الحصار, واستثمار الحدث لتفعيل الدبلوماسية الفلسطينية, وحشد الرأي العام العالمي, وبخاصة الأسف الأمريكي لما حدث ووقع على سفن الحرية, وتعرية الصورة الإسرائيلية؟ كيف يمكن نقل الجريمة من فعل كلامي وإعلامي إلى فعل قانوني تحاصر به إسرائيل وقادتها, وفعل ثقافي سياسي يسهم في إضعاف خطابها في العالم بخاصة الدول الغربية, ومجموعات حقوق الإنسان العالمية؟
علينا أن نكون أكثر دقة, فالعالم يشهد تحولا كبيرا ليس في سياساته وإنما في المشاركين الجدد في صناعة قراراته, والمجتمع المدني الأوروبي والغربي على الخصوص قطاع فاعل ومؤثر ولديه مؤسسات إعلامية وسياسية وقانونية واقتصادية كبيرة وذات قدرات هائلة وينضوي تحته عدد كبير من المثقفين والمفكرين, وهم قادة مساهمون في صناعة الرأي العام في بلادهم ولهم علاقات بقادة الرأي العام في العالم, فهل استطاعت مؤسسات المجتمع المدني ''العربية'' ليست الممولة والمخترقة من الخارج, في تجديد آلياتها وسياساتها مع الأنماط التفاعلية الجديدة, تفاعلا قانونيا وعقلانيا وإنسانيا؟ غزة أصبحت نقطة تشكل تضامن عالمي مكون من منظمات وقطاعات اجتماعية (شبابا وطلابا ونساء, وعمالا وأكاديميين ومثقفين وصحافيين وأطباء ومهندسين) وتم التحضير لمسيرة غزة نحو الحرية Gaza Freedom Marsh بالتنسيق مع القوى التضامنية الأوروبية وفي أمريكا لتنظيم مسيرة ضخمة على حاجز بيت حانون المعروف بمعبر ''إيرز'' شمال غزة, وكان مخططا أن يشارك في هذه المسيرة 50 ألف شخص, وأن عديدا من الهيئات تكفلت بالدعم المالي والعيني والإعلامي, فأصبحت غزة على خريطة الرأي العام العالمي المؤثر.
هنا نتساءل: كيف نستفيد من أخطاء إسرائيل لنحول الجريمة إلى إدانة عالمية؟ كيف يتحول هذا النمط التفاعلي إلى لغة استراتيجية فاعلة ومؤثرة ومؤسساتية؟ كيف نمتلك دبلوماسية المجتمع المدني الجديدة, دبلوماسية الاتصال بالرأي العام وشخصياته المؤثرة, ليصبح المجتمع المدني شريكا ورقيبا على الدول الكبرى وفضح صمتها وفضح الأخلاقية الدولية المزدوجة؟ وفضح إسرائيل ومحاصرتها وخفض حجم الضغوط التي يتعرض لها صانع القرار السياسي العربي!!