في ظل كارثة جدة.. المرحلة الحالية والتوصيف القانوني
بعد صدور الأمر الملكي التاريخي رقم : أ / 66 وتاريخ 26/5/1431هــ المتضمن إحالة المتهمين في كارثة جدة، وما نتج عنها إلى هيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التحقيق والادعاء العام كل فيما يخصه. وتعتبر هذه المرحلة, المرحلة التالية في إجراءات التحقيقات، وتسمى الاستجواب، ويقصد به مناقشة المتهمين في التهم المنسوبة إليهم مناقشة تفصيلية، تحيط بجميع جوانب كارثة جدة وظروفها، ومواجهتهم بالأدلة القائمة ضدهم في الدعوى، بغية الكشف عن الحقيقة، لذلك تختلف هذه المرحلة عن المرحلة السابقة التي تم تشكيل الأمر السامي لها، وهي التحقيق الابتدائي إذ إن هذه المرحلة ليست مجرد سؤال المتهم عما هو منسوب إليه، بل تزيد بإحاطته علماً بنتائج التحقيق ومناقشة ذلك تفصيلا ومواجهته المتهمين بالأدلة.
ويحصل مع الاستجواب إجراء آخر من إجراءات التحقيق، وهو ما يسمى المواجهة, حيث يعرض فيها المتهم وجهاً لوجه على متهم آخر، أو شاهد كي يسمع بنفسه أقواله بشأن واقعة أو وقائع معينة، فيتولى الرد عليها إما بالتأييد وإما بالنفي، والغالب أن المواجهة كإجراء تأتي بعد الاستجواب.
ومن أهم الضمانات العامة في التحقيق الجنائي خلال هذه المرحلة، أن الذي يباشر سلطة التحقيق هو الشخص المخول قانوناً لسلطة التحقيق، فلا يخول لأي شخص التحقيق أو الندب, وتحظر المادة 65 من نظام الإجراءات الجزائية ندب أحد رجال الضبط الجنائي - وهم رجال الشرطة - وغيرهم لإجراء أي استجواب للمتهم، وربما يستثنى هذا الأصل فقط في حالة واحدة، وهي التي يخشى فيها فوات الوقت متى كان ذلك متصلاً بالعمل الذي ندب لإجرائه وضرورياً لكشف الحقيقة، وهذه الحالة ليس لها محل بعد إحالة أوراق المتهمين إلى جهات التحقيق المختصة بموجب الأمر الملكي المشار إليه أعلاه.
ومن الضمانات العامة جواز توكيل المتهم غيره للدفاع عن نفسه، من أجل دحض ما يوجه إليه من اتهام جنائي سواء كان ذلك في مرحلة الاستجواب أو المحاكمة، وجمهور الفقهاء على جواز الاستعانة المتهم بوكيل أقدر منه على الدفاع وأقوى حجة في دفع الخصومات ودحضها, وعلى هذا سار نظام الإجراءات الجزائية كما في المادة 69، حيث جعلت للمتهم الحق في التوكيل, كما أكدت حق الوكيل أو المحامي في حضور جميع إجراءات التحقيق.
وليس صحيحاً أن قبول المحامي التوكيل فيه خدش لمشاعر المتضررين, إذ إن الأصل في المتهمين العدالة والبراءة, بل إنه عند الشك، فإن الشك يفسر لمصلحة المتهم.
وعلى هذا سار قضاء ديوان المظالم كما في الحكم الصادر عام 1400هـ، إذ قرر في حكم له: ''متى تطرق الشك والاحتمال إلى قرائن الإدانة، وجب الحكم ببراءة المتهم لعدم كفاية الأدلة، إذ الشك يفسر لمصلحة المتهم''.
ومن الضمانات أيضاً أن للمتهم حق الصمت، بحيث لا يجبر على الإدلاء بأقوال ضد نفسه ربما تؤخذ ضده في الإثبات, وأن له الحق في الصمت، بل إنه في القانون الإنجليزي يلزم المحقق قبل مباشرة استجواب المتهم تنبيهه إلى أنه ليس ملزماً بالإجابة عن أي من الأسئلة، وتحذيره إلى أن ما يصدر عنه من أقوال يمكن أن يتخذ دليلاً ضده. والأصل في ذلك الموازنة بين المصلحة العامة في نظام العدالة الجنائية ومصلحة المتهم.
ومع أن حق الصمت لم ينص عليه صراحة في التشريعات الإجرائية في البلاد العربية، إلا أن هذا الحق مستمد من أصل مقرر في الشريعة إلا سلامية، ألا وهو افتراض البراءة حتى تثبت إدانة المتهم بحكم قضائي، ومن ثم فإن هذا الحق يبيح للمتهم عند استجوابه رفض الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، بشرط ألا يؤخذ من امتناعه قرينة واضحة على ثبوت التهمة ضده.
وهذه الضمانات مقررة في كتب الفقه والقانون، ولا يعني التذكير بها التهوين من أمر الفاجعة، أو إهمال مشاعر المتضررين, وإنما حرصت على إيرادها من باب إعادة التوازن في النظرة العدلية للفرد والمجتمع تجاه هذه الكارثة، تلبية لتعاليم شريعتنا الرائدة في محاربة الفساد، وحسم كل الوسائل الفعلية التي أدت إلى هذه الكارثة، وعلى أثرها صدرت الإرادة الملكية.
وفي الختام أحث نفسي والقراء الكرام على أمر مهم، ألا وهو عدم الاستعجال في إصدار الحكم على الآخرين من أجل شبهة التوقيف أو الحبس الاحتياطي، وأن يتقوا الله في أعراض الناس، والمسلم لن يسأل يوم القيامة لماذا لم تتكلم في فلان أو فلان، ولكن سيسأل سؤالا واضحاً.. لماذا انتهكت عرض أخيك؟ وسعيت في تشويه سمعته؟
عند ذلك أعد لنفسك الجواب.
وتذكروا دائماً أن القاعدة الشرعية القانونية تقول: (الأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته).