تجريم تمويل الإرهاب وطنياً ودولياً (1)

المصالح الأساسية المعتبرة التي ترعاها وتحافظ عليها الشريعة الإسلامية الغراء وتمنع أي اعتداء عليها هي خمس مصالح وهي المحافظة على الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال، ولا شك أن الإرهاب في وقتنا الحاضر يعد من أكبر الجرائم وأشدها خطراً على هذه المصالح الأساسية. وتدخل جريمة الإرهاب ضمن مفهوم جريمة الحرابة التي واجهتها الشريعة الإسلامية الغراء بأشد العقوبات، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
ولقد أصدر كثير من الدول تشريعات خاصة بمكافحة الإرهاب وأبرمت اتفاقيات دولية من أجل التعاون الدولي في مجال درء ومكافحة الجرائم الإرهابية.
ولا يستطيع الإرهابيون تخطيط وتنفيذ جرائمهم البشعة إلا إذا توافرت لديهم الامكانات المادية اللازمة للقيام بأعمال التخطيط والتنفيذ، ولذلك نصت التشريعات الوطنية والاتفاقيات والوثائق الدولية على تجريم تمويل الإرهاب واعتباره جريمة معاقب عليها. والشريعة الإسلامية الغراء كما جرمت وعاقبت كل من باشر بارتكاب الجريمة فإنها أيضا جرمت وعاقبت كل من حرض أو أعان غيره على ارتكابها, ولو لم يتفق معه على ارتكابها. ولا شك أن تمويل الإرهابيين يعد نوعاً من أنواع التحريض والإعانة على ارتكاب جرائمهم الإرهابية. ولقد أصدرت هيئة كبار العلماء قراراً برقم (39) وتاريخ 27/4/1431هـ بشأن تجريم تمويل الإرهاب، ونظراً لأهمية هذا القرار أسرد نصه الحرفي فيما يلي:
(الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن هيئة كبار العلماء في جلستها العشرين الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض بتاريخ 25/4/1431هـ، تشير إلى ما سبق أن صدر عنها من قرارات وبيانات فيما يقوم به المفسدون في الأرض بما يزعزع الأمن، ويهتك الحرمات في البلاد الإسلامية وغيرها: كالقرار المؤرخ في 12/1/1409هـ. والبيان المؤرخ في 13/2/1417هـ. والبيان المؤرخ في 14/6/1424هـ. وقد نظرت الهيئة في حكم "تمويل الإرهاب" باعتبار أن الإرهاب جريمة تستهدف الإفساد بزعزعة الأمن، والجناية على الأنفس والأموال والممتلكات الخاصة والعامة، كنسف المساكن والمدارس والمستشفيات والمصانع والجسور ونسف الطائرات أو خطفها والموارد العامة للدولة كأنابيب النفط والغاز، ونحو ذلك من أعمال الإفساد والتخريب المحرمة شرعاً، وأن تمويل الإرهاب إعانة عليه وسبب في بقائه وانتشاره. كما نظرت الهيئة في أدلة "تجريم تمويل الإرهاب" من الكتاب، والسنة، وقواعد الشريعة، ومنها قول الحق جل وعلا "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" المائدة (2) وقال سبحانه "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة والدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" البقرة (204-205) وقال تعالى "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" الأعراف (56)، وفي صحيح مسلم من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لعن الله من آوى محدثاً" الحديث. قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية: أن للوسائل حكم الغايات، ولما جاء في الشريعة من الأمر بحفظ الحقوق والعهود في البلاد الإسلامية وغيرها. لذلك كله فإن الهيئة تقرر: أن تمويل الإرهاب أو الشروع فيه محرم وجريمة معاقب عليها شرعاً، سواء بتوفير الأموال أم جمعها أم المشاركة في ذلك، بأي وسيلة كانت، وسواء كانت الأصول مالية أو غير مالية، وسواء كانت مصادر الأموال مشروعة أم غير مشروعة. فمن قام بهذه الجريمة عالماً، فقد ارتكب أمراً محرماً، ووقع في الجرم المستحق للعقوبة الشرعية بحسب النظر القضائي. وتؤكد الهيئة أن تجريم تمويل الإرهاب لا يتناول دعم سبل الخير التي تعنى بالفقراء في معيشتهم، وعلاجهم، وتعليمهم لأن ذلك مما شرعه الله في أموال الأغنياء حقاً للفقراء. وإن هيئة كبار العلماء إذ تقرر هذا فإنها توصي المسلمين جميعاً بالتمسك بالدين وهدي نبينا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والكف عن كل عمل من شأنه الإضرار بالناس والتعدي عليهم. ونسأل الله ـ عز وجل ـ لهذه البلاد المباركة السعودية، وعموم بلاد المسلمين الخير والصلاح والحفظ وجمع الكلمة، وأن يصلح حال البشرية أجمعين بما يحقق العدل وينشر الفضل. والله الموافق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ويلاحظ من هذا القرار أنه فرق بين تمويل الإرهاب وتمويل ودعم الأعمال والأنشطة الخيرية، وبالتالي فإنه يجب عدم الخلط بينهما فلا يصح تعطيل تمويل النشاط الخيري بذريعة درء تمويل الإرهاب ومنعاً للشبهات, فإنه يجب على المؤسسات والجمعيات الخيرية أن تحرص على ممارسة أعمالها ضمن إطار أحكام وقواعد جميع الأنظمة واللوائح ذات الصلة بممارسة الأعمال الخيرية. ومن ناحية أخرى، فإن قرار هيئة كبار العلماء وإن جرم تمويل الإرهاب بأي طريقة أو وسيلة واعتبرها جريمة يستحق مرتكبها العقوبة إن كان عالماً بها إلا أنه لم يحدد العقوبة الواجب إنزالها على مرتكب هذه الجريمة وترك أمر تحديدها للجهات القضائية المعنية باعتبارها من العقوبات التعزيرية. وفي تقديري أن خطورة هذه الجريمة تستوجب إصدار نظام يحدد بالتفصيل أساليب وطرق تمويل الإرهاب المباشرة وغير المباشرة وأن يقرر الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المقررة لكل أسلوب من أساليب ارتكاب جريمة تمويل الإرهاب أو الشروع في هذه الجريمة على غرار القوانين التي أصدرتها بعض الدول بشأن مكافحة الإرهاب ومنع وقمع تمويله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي