صندوق العقار .. وهم الانتظار
لا أدري كم سيحشد مقالي هذا من الأصوات المعارضة، لكني أستطيع أن أتخيل نوعية التعليقات الساخرة والساخطة التي سيستثيرها من الإخوة القراء. وعلى الرغم من ذلك، قررت أن أمارس حرية الرأي باقتدار، وأن أضع في عدد من المقالات المتتابعة مجموعة من الآراء التي ستتناول في مجملها رؤية تسعى إلى تقييم مسببات مشكلة الإسكان التي تعيشها المملكة، ولفت النظر إلى توجهات مختلفة في التفكير يمكن أن تقود إلى الحل الذي طال انتظاره. والحل هنا لن يخلق بعصا سحرية، ولن يتأتى دون تضافر جهود كل من يمسهم هذا الهم، حتى لو نسوا أو تناسوا مسؤولياتهم تجاهه.
أبدأ هذه السلسلة بالحديث عن صندوق التنمية العقاري، هذا الكيان الذي لعب دورا مؤثرا في مرحلة من مراحل التنمية في المملكة منذ تأسيسه عام 1394هـ. وأقول إن هذا الدور كان بالفعل مؤثرا بكلا جانبي التأثير الإيجابي والسلبي، ففي الجانب الإيجابي قام الصندوق بتمويل بناء عدد كبير من المساكن منذ تأسيسه، ولمن رغب في أن يعرف هذا العدد على وجه الدقة أن يرجع إلى أرقام إحصاءات الصندوق. وفي المقابل، فإن الجانب السلبي يحمل كثيرا من النقاط التي أخشى أن تجعل هذا الجانب يطغى في مخيلة القارئ الكريم على الجانب الإيجابي. وسأتجاوز الحديث عن مشكلات الواقع الحالي سواء من جهة قيمة القرض المتدنية، أو من جهة مدة الانتظار الطويلة التي قد تبلغ 40 عاما بحسب حجم قوائم الانتظار الحالية ومعدلات منح القروض السنوية، فأقول إن أولى هذه النقاط هي ما قام به الصندوق من ترسيخ ثقافة التطوير الفردي للمساكن في المملكة، وهو واقع مرير انعكس بآثار سلبية كثيرة على اقتصاديات البناء وجودة المباني والأحياء، وأدى إلى هدر كبير في الوقت والجهد، ناهيك عن هدر الأموال والموارد، وخلق عقبات كبيرة في طريق تطوير صناعة بناء المساكن والتمويل العقاري. وثانية هذه النقاط هي في ترسيخ ثقافة الاعتماد المطلق على الدولة لحل مشكلات المواطن، وأصبح المواطن ينتظر من الدولة أن توفر له أرضا وقرضا ووظيفة وربما زوجة أيضا، في اتكالية مخلة عقيمة أفقدت المواطن روح المبادرة وأوقعته في فخ الاستسلام والاستكانة إلى أن يأتي الفرج. ثالث النقاط السلبية هي الجمود الذي يعيشه الصندوق منذ تأسيسه، إذ إنه ما زال حتى الآن، ورغم مرور أكثر من 30 عاما على تأسيسه، يمارس الإجراءات نفسها، ويطبق الآليات والشروط ذاتها، غافلا عن أن الزمن قد سبقه، وأرقام الطلب المتراكمة على المساكن تجاوزت قدراته. والنقطة الرابعة هي ما أدى إليها نظام الصندوق من زيادة في الطلب على الأراضي التي تشكل عنصر الانطلاق الأساس لمعاملة تسجيل طلب القرض، الأمر الذي أدى إلى زيادة أسعار الأراضي التي أصبحت في بلدنا سلعة تجارية ومادة للبيع والشراء والمضاربة والتربح والاحتكار، وأسوأ ما أنتجه الصندوق في هذا الإطار ما نشهده من تداول مزيف لقطع الأراضي، ليس بغرض البناء عليها، وإنما بغرض التسجيل في قائمة الانتظار الطويلة في الصندوق، وأصبحت قطعة الأرض الواحدة تباع مرات ومرات في دورات غير منتجة ومهدرة للأموال والطاقات. سأكتفي هنا بهذا القدر من تعداد الجوانب السلبية لدور الصندوق، ولو أن في ذهني غيرها الكثير، الذي ربما يعلمه ويراه القارئ الكريم.
لقد حان الوقت، بل تأخر بالفعل، لمبادرة جادة لمراجعة نظام صندوق التنمية العقاري ولن أضم صوتي إلى أصوات من يدعون إلى زيادة قيمة قرض الصندوق استجابة لزيادة تكاليف البناء، وهي الزيادة التي أوصى بها مجلس الشورى، دون أن يفطن أحد إلى أنها ستنعكس بالتضخم على أسعار الأراضي والعقارات وتكاليف البناء، وبالتالي لن تحقق التمكين الذي نتطلع إليه لتملك المساكن. ما أدعو إليه هو تطوير شامل لنظام الصندوق، يكون مرتكزه الأساسي إعادة هيكلته كبنك للإسكان، والتحول من تمويل الأفراد إلى تمويل المطورين. وأجيب عن تساؤلات المستنكرين لهذه الدعوة قائلا، إنني أعلم أن هذا الأمر غير قابل للتطبيق بشكل فوري، حيث إن واقع سوق العقار يشهد غياب مثل هؤلاء المطورين المحترفين المتخصصين، وهو ما يتطلب معالجة عدد من الجوانب الأخرى التي سأتناولها بالحديث في مقالات قادمة من هذه السلسلة. كما أن هذا التوجه يتطلب تغييرا في التشريعات المنظمة لعمل الصندوق، ليتمكن من استثمار موارده وتنميتها، وممارسة سياسات استثمارية تمويلية تتجاوز الإقراض المباشر إلى المشاركة في الاستثمار والبناء، وتضع آليات تشجع الأفراد على الادخار والتخطيط المالي لتحقيق حلم تملك المسكن، مذكرا بأن رأسمال الصندوق، الذي تجاوز على حد علمي 82 مليار ريال، يساوي أكثر من عشرة أضعاف مجموع رؤوس أموال شركات التمويل العقاري التي تم تأسيسها في المملكة خلال السنوات القليلة الماضية، وتقدم في كل سنة تمويلا يتجاوز حجم التمويل الذي يقدمه الصندوق .. فهل من معتبر؟