إنه يدعوكم من قبره

هناك من الناس من يعيش حياته كلها في كراهية وحقد للآخرين, بل هو الكراهية نفسها, يأكل كراهية ويتنفس كراهية ويتكلم بكراهية ويدعو إلى الكراهية ويتقرب إلى الناس بكراهية الآخرين, ويحب بمشاعر مخلوطة بالكراهية, ويطلب حتى الجنة من إله الرحمة بالكراهية, بعض هؤلاء يحملون الكراهية حتى إلى قبورهم. مثل هؤلاء مثل ذلك الإنسان الذي أصر على أن يكتب على قبره “ها هنا ترقد عظامي ليتها كانت عظامك”, ومن ثم يطلب من الزائر لقبره أن يسأل الله الرحمة له, لكن هل مثل هذا الإنسان الممتلئ حقدا وكراهية لعباد الله أن يحظى بالرحمة الإلهية؟!
في المقابل كم وكم هناك من أناس ارتكبوا أخطاء وربما سلكوا طريق الباطل, لكن لما تكشفت لهم حقيقة ما هم عليه من خطأ وضلال صار بودهم وبدافع حبهم للآخرين ومن واقع تجربتهم أن يأخذ الناس دروسا من حياتهم وعبرة من تجاربهم. كم هناك من الناس في السجون ممن اكتووا بنار المخدرات وشرها وهم اليوم يريدون الخير لمجتمعهم, ماذا لو أتيحت الفرصة لهؤلاء للقاء أبنائنا الشباب في المدارس والأندية ليسمعوا منهم ندمهم وحرقتهم على ما تسببت به هذه الآفة من تخريب ودمار لحياتهم. إن من حق الشباب على مجتمعهم أن يطلعهم على النهايات وليس البدايات فقط, لا يكفي لهم أن نعلن سقوط هؤلاء في قبضة العدالة وأنهم الآن ينالون جزاء جريمتهم لأن سماع ندمهم وتلمس حسراتهم والاقتراب من عواقب ما يحسونه هم بأنفسهم هو الأكثر تأثيرا فيهم.
وكم هناك من المرضى في المستشفيات, وهم في غرف العناية المركزة, التي هي في نظر بعضهم صالات انتظار لمغادرة الحياة, من يريد أن يقول لنا ولو بكلمات غير مسموعة أو متقطعة بسبب السعال الذي يخرج من صدورهم حمما كما تخرج البراكين حممها من الأرض, هذا ما فعله التدخين بنا, وما هذه الحمم التي ترونها وتتقزز نفوسكم من رؤيتها ومنظرها ألا وهو الدخان الذي راكمناه لسنوات عديدة في صدورنا. فكل 15 سيجارة أخذناها في حياتنا أحدثت طفرة في جيناتنا, ودفعت بنا خطوة إلى الأمام في الطريق إلى السرطان. نعم نحن في حاجة إلى هؤلاء المدخنين الذين يلفظون أرواحهم قطعة بعد قطعة لأن عندنا ستة ملايين مدخن لا يعرفون أن مثل هذا سيكون مصيرهم في المستقبل. نريد أن نعرف من هؤلاء المدخنين المغادرين لحياتنا كيف أن دخان السجائر والشيشة هو أنه فعلا دخان ينفخ في قلوبنا حتى الانفجار ويعبث بخلايا أجسادنا ليجعل منها عصابات سرطانية متمردة تفتك بأجسامنا. إننا في حاجة إليهم ليسمع منهم أطفالنا وشبابنا أن التدخين والشيشة ليست هي بالممارسات التي ترفع قيمتنا كأناس, وليست هي التي تجعل منا رجالا, أو كما قال ـ مع الأسف ـ أحد الشباب إن الشيشة هي اليوم ممارسة شباب من يريد فعلا أن يعيش شبابه وحياته, فهذا الكذب وهذه الخديعة لن تنكشف إلا عندما يقول هؤلاء المدخنون كلمتهم إننا كنا في وهم, وإن حالنا هذا هو نتيجة لخداعنا أنفسنا. ولعل الأكثر من بين ما يؤلمهم وبودهم أن ينقلوه لنا هو أنه كم من نفس بريئة زهقت أو أجنة تشوهت أجسادها نتيجة لدخان سجائرهم السامة.
وكم هناك من الأموات أو المعلولين في المستشفيات ممن أنهت حياتهم أو شلتهم وقعدت بهم الحوادث المرورية ممن عندهم كثير من الكلام الذي يودون أن يسمعوه لنا. فذلك الشاب الذي ارتطم بعمود الجسر ففارق الحياة في لحظة عنده ما يريد قوله عن السرعة وكيف أنها خدعته وأعطته نشوة كاذبة لتنتهي به محمولا على الأكتاف إلى قبره. فهذا الشاب الذي اختصر الحياة اختصارا وترك الحزن واللوعة في قلوب أهله يريد أن يصيح بأعلى صوته ليسمع كل الشباب في مثل عمره أن الحياة أغلى وأثمن من أن ينهيها بهذه السرعة, كم بوده أن يخرج من قبره لابسا كفنه وكاشفا عن أضلاعه التي حطمها حديد السيارة ليتنقل بين الطرق ويتحدث مع شبابنا ومع غيرهم لعل في منظره وآهاته وحسراته ما يجدي نصحا بأن السرعة العالية هي التي جعلتنا من أكثر شعوب العالم في حوادث السيارات, وأننا الأكثر من بين الدول في نسبة الحوادث التي ينتج عنها وفيات وإصابات بشرية. لعله لم يعلم من قبل واليوم يريد غيره أن يعلم أن الإنسان كلما ازداد سرعة في قيادته لسيارته يفقد بقدرها نصيبا من قدرته على التحكم فيها, كان يرى نفسه وهو مندفع للارتطام بالعمود الذي أنهى حياته, لكن هيهات كانت السيارة تأخذه عنوة للارتطام به. وبالتأكيد فإن هذا الشاب قد التقى غيره ممن كان لهم المصير نفسه, وتجده بوده أن ينقل لنا صور ما شاهده, فهذا شاب استكثر على نفسه الانتظار لدقيقة واحدة عند الإشارة المرورية, وكان ثمن هذه الدقيقة هو عمره بالكامل وعمر ثلاثة من الأبرياء الذين كانوا في السيارة الأخرى, وذاك شاب كابرته نفسه إلا أن يتجاوز في منعطف خطر ليجد نفسه أمام شاحنة مهولة التهمته تحت عجلاتها فكان مصيره القبر ومصير سيارته التي كان لا يتحمل وجود خدش ولو بسيط في جسمها مكان التشليح, فسيارته تنهال عليها المطارق والمفكات لتنتزع منها ما يمكن الاستفادة منه وهو تنهش فيه ديدان الأرض لما وجدت فيه من لحم طري وغذاء طازج.
صحيح أن الأموات لا نسمعهم لكنهم يتحدثون إلينا وعندهم ما يريدون قوله لنا وعلينا أن نحسن ترجمة ما يقولون, إنهم يتحدثون لنا بصدق وينقلون لنا تجاربهم بكل أمانة وعلينا أن نصغي إليهم. وكم هو رائع هذا العمل الذي يقوم به ذلك الإنسان الذي فقد ابنه هادي في حادث مروري, نعم بكاه بحرقة ومرارة وما زال إلى اليوم يبكيه, لكنه بكاء بلا دموع, فهو اليوم ينقل حديث ابنه الميت إلى الآخرين وإلى المجتمع عموما. نعم استمد هذا الرجل من مأساة ولده طاقة ليتحدث بها ما يهمس ابنه في أذنه من كلام. لقد أسس هذا الرجل المفجوع في ابنه مؤسسة مدنية وسماها “كن هادي” ليقول لكل من يقود سيارته إن هادي الميت يقول لك لا تسرع ولا تعجل ولا تتوتر ولا تستفز ولا تنفعل ولا تزاحم ولا تخالف ولا تكابر لأن كل هذه الأشياء قد تنتهي بك إلى ما أوصلتني إليه, ببساطة كل ما أطلبه منك أن تسوق بهدوء وأن تساعد غيرك على أن يسوق بهدوء. إننا فعلا في حاجة إلى صيحة هادي لأن نسوق بهدوء, فهذا قطع الإشارة, وتسبب في وقوع حادث لأنه لم يأخذ الأمور بالهداوة, وينتظر الإشارة الخضراء التي كان بينه وبينها أقل من دقيقة, وذاك ارتطم بالسيارة التي أمامه لأنه كان يريد أن تبتعد عن طريقه بأسرع من درجة تحمله وصبره الذي هو في درجة الصفر أو ما دون الصفر. صحيح أن السرعة وقطع الإشارات المرورية والتجاوزات الخاطئة هي من الأسباب الرئيسة للحوادث, وإن كل هذا القتل الذي نشهده في شوارعنا نتيجة لها, لكن ما يجمع هذه الأسباب ويوحدها مع بعضها هو أننا لم نعد نسوق سياراتنا بهدوء. إننا في حاجة إلى سلام في طرقنا وشوارعنا وهذا السلام لا تنتجه نفوس متوترة ومنفعلة وليس عندها صبر. إننا في حاجة إلى ثقافة مرورية تعلمنا كيف نسوق بهدوء. نتمنى أن نرى توعية بالسباقة الهادئة في مدارسنا وأنديتنا وشوارعنا. بالتأكيد أننا عندنا مئات بل آلاف من هادي الذين ذهبوا ضحايا ممارسات سائقين غير هادئين. إننا فعلا في حاجة إلى أن يكون كل منا هاديا, هاديا وهو يقود سيارته, هاديا وهو يترقب الإشارة الخضراء, هاديا وهو يتجاوز السيارة الأخرى وهاديا وهو يضغط على دواسة البنزين وهاديا وهو يقبض مقود سيارته.
الحياة كلها فرص, في أحزانها كما هي في أفراحها, فوالد هذا الشاب هادي الذي فقد ابنه بالتأكيد له فضل في إنقاذ المئات من الشباب من أمثال هادي في لبنان, فهذا الوالد ظل يحاور ويتحدث إلى ابنه الميت وعندما أحس أن بعض الأموات عندهم من الكلام ما هو أفضل من كلام الأحياء, فكلامهم فيه عبرة ونصيحة مخلصة ومقاربة صادقة للحقيقة. فلنسمع كلنا لهادي ولنسوق فعلا بهدوء لأننا فعلا تعبنا, تعبنا من الحوادث, تعبنا من هذا الموت الرخيص, تعبنا مما نشاهده في شوارعنا من مناظر مخيفة, والآن من حقنا أن نطلب الهدوء, فلنكن هادين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي