نظام الإيرادات.. واسطة العقد

من بين الحراك الذي يتابعه المراقبون من داخل المملكة وخارجها ما يجري من مراجعة شاملة ومكثفة للأنظمة اللوائح والتي شرعت فيها الحكومة ومجلس الشورى منذ بضع سنوات كي تتناغم مع التطور الكبير الذي طرأ على شتى مناحي الحياة, لا سيما أن بعضاً من تلك الأنظمة مضى على صدورها أكثر من 60 عاماً دون أي تحديثات تذكر. وتعد تلك المراجعة ركيزة أساس في برنامج الإصلاحات التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. ومن الملاحظات التي يمكن رصدها على بعض تلك الأنظمة القديمة التي عفا عليها الزمن, واستمر العمل بها إلى الأمس القريب, أنها اشتملت على مصطلحات ووحدات للوزن والقياس لم يعد لها وجود في تعاملات الناس في الوقت الراهن, ما قد يسبب كثيرا من العناء خاصة على جيل الشباب إذ يضطر المرء في كثير من الأحيان إلى الرجوع للمعاجم للبحث عن مرادفاتها الشائعة في عصرنا الحاضر, وأحسب أن بعضاً من القراء سيستعيد ذكرياته عن تجربة أو أكثر سبق أن خاضها في ذلك الشأن.
لا يقتصر وجه الخلل في بعض الأنظمة القديمة على استخدام مصطلحات أو مسميات اندثرت، بل أيضاً على عدم قدرتها في التعامل مع المستجدات في الحياة بشكل عام والاقتصاد والتجارة بشكل خاص. ففي الموانئ البحرية كمثال, وهي بوابات التجارة, نشأت إشكالية في التكييف القانوني لبعض أساليب الشحـن البحري التي لم تكن دارجة من قبل كسفن الدحرجـة RO RO أو سفن الحاويات (الكونتينرات)، ومن ثم كان لا بد من استحداث قائمة مبتكرة من البنود في تعرفة الأجور المستحقة كإيرادات للدولة. ولا شك أن هناك أمثلة أخرى كثيرة لأوجه القصور في تلك الأنظمة القديمة يمكن للباحثين المتخصصين تتبعها وتناولها بالدراسة والتحليل.
إن القفزات الكبيرة التي حققها الاقتصاد السعودي على المستويين الإقليمي والدولي, والانفتاح التجاري على الأسواق الخارجية, وكذلك الانضمام لمنظمة التجارة العالمية, كلها أسباب دعت إلى إعطاء أولوية لمراجعة الأنظمة التي يعتمد عليها ذلك القطاع في نموه وحيويته. إذ قادت وزارة المالية تحركاً جاداً نحو إصلاح جذري لتلك الأنظمة ودفعت بحزمة منها إلى مجلس الشورى لدراستها والتصويت عليها، ومن ثم حظيت بموافقة خادم الحرمين الشريفين لتصبح قوانين نافذة. من بين تلك الأنظمة نظام الضريبة، نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، ونظام الرهن العقاري المنتظر صدوره في وقت قريب. ولو نظرنا، كمثال، إلى النظام الضريبي على دخل الشركات الأجنبية في المملكة، نرى أنه بينما كان بالأمس مصدراً للشكوى، أضحى اليوم يعد من بين أحدث الأنظمة في العالم وأكثرها وضوحاً ما يدعم جذب الاستثمارات وشفافية معاملتها. ويمكن أن ينسحب نفس القول على معظم، إن لم يكن جميع، الأنظمة الأخرى التي روجعت وصدرت في الآونة الأخيرة.
وهنا أود أن أشير إلى أن الكم الكبير من مشاريع الأنظمة التي نظر فيها مجلس الشورى أكسب الأعضاء مجموعة من المهارات من بينها القدرة على التمييز بين مشروع نظام مهلهل أعد على عجل، أحكامه متداخلة ومواده مركبة, وبين آخر متماسك البنيان, عباراته واضحة وتسلسل فقراته لا تتصادم مع الحس السليم. وأحسب أن مشروع ''نظام إيرادات الدولة''، الذي أجازه المجلس في 20/4/1431هـ, نموذج جيد للصنف الثاني من تلك المقابلة, إذ كتب على نحو يسًهل على أصحاب القرار والمراكز العليا في الإدارات الحكومية استيعابه بعد قراءتين أو ثلاث, وهي ميزة تنفيذية في غاية الأهمية للمحافظة على المال العام والحرص على تحصيل مستحقات الدولة لدى الأطراف الأخرى. ذلك أن ما يحدث من تراخ أحياناً في تحصيل تلك المستحقات ليس مرده إهمال الصف المتوسط أو الأدنى في سلم الإدارة, بل قد يكون مرده صدور تعليمات من الإدارة العليا مخالفة للنظام نتيجة عدم إدراك أو وعي بمقتضياته.
هناك مزايا أخرى جاء بها مشروع ''نظام الإيرادات'' من بينها ما ورد في مادته الخامسة بمنح مكافأة للجهة التي تحقق زيادة في إيراداتها السنوية, كما تشمل المكافأة الموظفين الذين عملوا على تحقيق تلك الزيادة. كما أصبحت فرصة الاستعانة بالقطاع الخاص في تحصيل إيرادات الدولة متاحة أمام الجهات الحكومية كجزء من النظام وليس كحالات فردية مقيدة. ولعل من حسن الطالع لمشروع النظام أن وزارة المالية استبقته بتمهيد الطريق أمامه عندما أطلقت قبل نحو عامين شبكة ''سداد'' الإلكترونية التي تربط جميع البنوك لتسديد المستحقات المترتبة للجهات الحكومية من قبل المواطن أو المقيم والمؤسسات والشركات.
وإن كان من إضافة أخيرة هنا, قد ترى وزارة المالية الأخذ بزمام المبادرة في اختيار وتدريب أفراد الوحدات التي نصت على إنشائها الفقرة (ب) من المادة الرابعة من مشروع النظام للاستثمار وتطوير الإيرادات، وألا يترك ذلك الأمر لكل جهة على حدة, إذ لا يخفى على الوزارة مصير وحدات مشابهة نص على إنشائها في أنظمة أخرى, كوحدات المتابعة وغيرها.
إن مشروع ''نظام إيرادات الدولة'' سيشكل - بإذن الله - بعد صدوره، وثبة عالية متقنة في ضبط وتنمية الإيرادات العامة في بيئة عمل شفافة يحمدها الجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي