متى تنجب بيوتنا مبدعين؟

يولد الطفل متمتعاً بما حباه الله ـ سبحانه وتعالى ـ من قدرات عقلية وجسدية، يمكن استخدامها وبناؤها وتنميتها لتطوير أجيال من القادة والعلماء والمبدعين تسهم في تطوير وقيادة الوطن إلى النجاح والتفوق، وهي مهمة شائكة ومعقدة منوطة بشكل أساسي بالأم والأب أولاً وأخيراً، مع وجود شركاء استراتيجيين مساعدين في المدرسة والمعلم والمجتمع، يختلف حجم ومدى تأثيرهم في تربية ونمو الطفل حسب الزمان والمكان والبلاد والثقافة والديانة وغيرها. في المنزل، تبدأ العملية التربوية من خلال الاختيار الصحيح للزوجين لبعضهما ووجود التوافق والألفة والمحبة والمساواة وتحمل المسؤولية بين الزوجين لبناء أسرة فاضلة منتجة وداعمة للأسرة الكبيرة (المجتمع)، وبعد ولادة الطفل، تستمر وتتطور العملية التربوية، فيتعلم ويتدرب الطفل على المشي والحركة والأكل والقراءة والكتابة الأولية، ويتعلم ويتدرب على كيفية المناقشة والحوار، ويتعلم حب العمل وتحمل المسؤولية، ويتعلم آداب الطعام والنظافة والأمانة والنزاهة وغيرها من الآداب الحميدة. ولنا في حديث المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير قدوة ومثال في قوله "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ... إلخ" في توضيح الدور الأساسي والمحوري للوالدين في صقل وتأهيل الأبناء.
ويمكن النظر إلى نماذج وأمثلة ناجحة لشباب وشابات ناجحين متوفقين، والفضل، بعد الله، للتربية الصالحة والنموذجية للوالدين. ومن هذه الأمثلة "البخاري" الذي صرفت أمه الغالي والنفيس وسخرت نفسها ووقتها في سبيل تربيته ليصل إلى ما وصل إليه من علو في العلم والدين، وهناك الزبير بن العوام وأمه بطلة "أحد" صفية بنت عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب الذي حظي بتربية ومتابعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخديجة بنت خويلد، وعبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر، والخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز وخلفه أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن الناصر بطل الأندلس، وهناك في العصر الحديث عبد العزيز بن باز الذي حظي برعاية ومتابعة أمه، وغيرهم من علماء وقادة المسلمين.
أما النماذج المضيئة للأولاد والبنات في المجالات العلمية، فهناك توماس إيدسون من ولاية أوهايو الأمريكية الذي تم طرده من المدرسة الابتدائية لعدم قدرة وجهل معلميه بفهم الفرق في التفكير والمشاركة بين الطلبة المبدعين والعاديين، لكن لإيمان وثقة ودعم ومتابعة ومثابرة أمه التي ثارت وغضبت على المدرسة وأصرت على متابعة تعليمه بعيداً عن هذه المدرسة، فتطور توماس ليصبح من أشهر وأهم العلماء والمخترعين في تاريخ البشرية بأجمعها. ومن النماذج المضيئة الأخرى هيلين كلير، المعوقة سمعياً وبصرياً، التي سخر لها والداها المال والوقت لتعليمها، لتقود مسيرة تعليم وتطوير المعوقين في مجالات التعليم والصحة، وغيرهما كثير وفي جميع أنحاء العالم.
وإلى جانب غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد وتعويدهم الذهاب إلى المساجد لأداء الصلاة في أوقاتها وقراءة القرآن وتدبره، يمكن استخدام عدد من الأدوات والطرق الأخرى في داخل البيت لتنمية وتطوير قدرات الطفل في جميع المجالات والمهارات، منها:
1. تشجيع القراءة باللغتين ما أمكن، وتخصيص موعد يومي للقراءة والثقافة العامة، مع إنشاء مكتبة صغيرة ومناسبة للمنزل. ولا يكفي طلب وتشجيع القراءة من الأولاد إذا كان الوالدان أنفسهما لا يحبان ولا يمارسان القراءة، كما أن قراءة الصحف اليومية وحدها لا تعد من ضروب القراءة النوعية والبناءة. ويمكن أيضاً القراءة والتعلم عن أساليب وطرق التربية والتعليم في البيت. كما يمكن أيضاً إقامة مسابقات وقراءات ثقافية، لتشجيع القراءة وزرع نوع من التنافس بين الأولاد وتشجيع المشاركة والمنافسة أيضاً بين الأولاد والآباء.
وقد تكون القدرات المالية المحدودة لبعض الأسر عائقاً أمام رغبة هذه الأسر في توفير كتب ثقافية لأولادها، ما يحتم ضرورة نشر وتوفير مكتبات مجانية في جميع الأحياء لتوفير الكتب المناسبة للأطفال بجميع فئاتهم، وهو أسلوب متبع في جميع الدول المتقدمة، ويسهم من دون شك في رفع ثقافة وتعليم المجتمع.
2. الأولاد ينظرون إلى والديهم كقدوة، يتم من خلالها تعلم وغرس قيم وصفات نبيلة في الطفل مثل الصدق والأمانة والصبر. وفي حالة عدم وجود القدوة الحسنة لأي سبب، إما لانشغال أحد أو كلا الوالدين في أعمالهما الخاصة أو حرصهما على الحصول على ترفيه شخصي من دون حدود سواءً في الذهاب إلى الأسواق أو الحفلات أو الاستراحات, وذلك على حساب البيت والأولاد، فسيتربى الأولاد على عادات وسلوكيات غير صالحة وغير محفزة، قد لا يكون الطفل مسؤولاً عنها بشكل كامل, وهذا ما أشار إليه الشاعر في قوله:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
3. ترسيخ قيم حب العمل والاستمتاع به. وقد يكون هذا مدخلاً لمشاركة جميع الأولاد (أبناء وبنات) والأب والأم (وليس فقط الأم) في أعمال البيت اليومية، من تجهيز الطعام وغسل الصحون والتنظيف وغيرها، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى الاستغناء عن الخادمات في المنازل، اللاتي يمثلن عبئا وضررا وخسارة مالية واقتصادية واجتماعية ونفسية وأمنية كبيرة، تتعدى عشرات المليارات من الريالات المحولة للخارج سنوياً، وجرائم نفسية وغيرها في حق أبنائنا وبناتنا، نحن في أمس الحاجة إلى التخلص منها بأي شكل من الأشكال، وهذا أيضاً ينطبق على السائقين. فليس من غير المعتاد أن نرى الخادمة أخذت دور الأم سواءً في البيت أو في السوق وغيرهما، والمطاعم السريعة أصبحت مصدر التغذية الأساسي للأطفال، وأما السائق، فالله يعين أخواتنا.
4. الاستماع بصبر وتفهم إلى آراء وتساؤلات ومداخلات الأولاد، مهما كانت ومهما كان رأي الوالدين فيها. ودائماً يحتاج الأولاد إلى من يستمع وينصت إليهم ويتفهم مشاعرهم ويشاركهم همومهم، وفي حالة عدم تفرغ الوالدين لهم، فحتماً سيبحثون عن أطراف أخرى ليتحدثوا لهم، وهذا ما يؤدي أحياناً إلى ضياع وتشتت الأولاد.
5. التنويع وخلق جو من المرح واللعب الرياضي بين جميع أفراد الأسرة من الأبناء والبنات، مع البعد عن توفير وتشجيع الترفيه المبالغ فيه والتخلص من الأدوات والأجهزة الترفيهية، التي أضحت، ومع الأسف، الشغل الشاغل لأولادنا.
6. إيمان الوالدين بأن كل عملهما وجهدهما في سبيل تقديم حياة أفضل وتربية مثلى لأولادهما، ليس فقط من قبل تأدية الأمانة أمام الله ـ سبحانه وتعالى ـ لكن أيضاً إحساسهما بالرضا والفخر بما يريانه مستقبلاً من تفوق ونجاح أولادهما.
ولا شك أنه إذا كان هناك احترام ومحبة ومودة وحسن حديث بين الوالدين، فهذا سينعكس إيجابياً على الأطفال، والعكس صحيح. في ظل جو حميم وصحي، ينشأ الطفل واثقاً من نفسه، يحترم الآخرين، ويقدر الواجبات والمسؤوليات أمام الآخرين والوطن، محباً للعمل، ومخلصاً للوطن. أما إذا كان هناك عدم احترام وعدم تقدير من قبل الأب للأم، مثلاً، الذي يمكن أن يتجلى في طريقة الكلام من توبيخ وصراخ أو غيره من الممارسات والسلوكيات المذمومة، فقد ينمو الطفل غير سوي, متشرباً ومؤمناً وممارساً لهذا النوع من السلوكيات المرفوضة من أي مجتمع حضاري.
وعند توافر عوامل التربية الصحيحة والصحية والتربوية، يمكن لأي طفل ومن عمر مبكر تعلم كيفية الاعتماد على نفسه في التعلم والفهم والبحث والحصول على المعلومة، وهذا السلوك متى ما تفشى وانتشر بين جميع الأسر والأطفال ليصبح سلوكاً مقبولاً للمجتمع، فسينحصر, بل ينتهي, عدد من السلوكيات غير الحضارية مثل انتشار الدروس الخصوصية في جميع مراحل التعليم العام، بل حتى في مراحل التعليم الجامعية المختلفة.
ودور الأسرة في البيت يصبح أهم وأكثر تأثيراً في صقل وتنمية شخصية ومستقبل الطفل في حالة المجتمعات التي تتصف بعدم حب العمل والكسل وغياب روح التنافس والإبداع وعدم تشجيع وتحفيز روح المبادرة والتميز. ودور الوالدين أيضاً محوري ومهم في حالة قصور وضعف النظام التعليمي في جميع مراحله. وفي هذه الحالة، لا يسهم المجتمع وثقافته والنظام التعليمي في تنمية قدرات الطفل وصناعة مستقبله بشكل إيجابي، ما يضع حملاً كبيراً على عاتق الأسرة للتعامل بحذر وذكاء مع المؤثرات السلبية للمجتمع والنظام التعليمي. في المقابل، تمثل المجتمعات المتقدمة التي يصاحبها عادة وجود أنظمة تعليمية متقدمة، شريكاً استراتيجياً داعماً ومحفزاً لدور الأسرة والوالدين في صقل وتنمية مهارات أولادهم.
وللحديث بقية..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي