نقلة جديدة في سياسة الطاقة

يعد أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي صدر في مطلع هذا الأسبوع (في 3/5/1431هـ) نقلة استراتيجية في سياسة المملكة للتعامل مع ملف الطاقة لتأمين مصادر جديدة تساند الثروة الهيدروكربونية ضمن خطة متوازنة على المدى الطويل. وكنت قد تناولت في مقال سابق نشرته «الاقتصادية» بتاريخ 1/5/1429هـ الحاجة إلى مراجعة استهلاك الطاقة في السوق المحلية وضرورة تبني «خريطة طريق» تراعي حقيقة أن النفط مهما كان حجم احتياطياته سينضب يوما ما. ومما ذكرت في ذلك المقال أن المملكة العربية السعودية لم تعد منتجاً رئيساً للنفط والغاز فحسب، بل انضمت أيضاً إلى قائمة كبار المستهلكين. إذ يبلغ ما يُستخدم محلياً في الوقت الراهن نحو 30 في المائة من إجمالي ما ينتج من الطاقة الهيدروكربونية (النفط والغاز) وبمعدل زيادة سنوية يراوح بين 8 و10 في المائة, وهو معدل عال بكل المقاييس. بالطبع جزء من ذلك الاستهلاك ومن تلك الزيادة قد يكون له ما يبرره في النمو الصناعي وبالذات كمادة لقيم feedstock في الصناعات البتروكيماوية، لكن هناك مساحة واسعة للترشيد في قطاع النقل الذي يستهلك نحو 39 في المائة من مجموع كميات النفط والمنتجات المكررة التي تمتصها السوق المحلية، وكذلك الحال في عمليات إنتاج الكهرباء وتحلية المياه التي تستقطع حصة لا تقل في مجموعها عن حصة قطاع النقل أو ما يعادل مليون برميل يومياً بين نفط وغاز.
تلك الملامح العامة لأنماط ومعدلات استهلاك الطاقة في السوق المحلية تدعو بلا شك إلى وضع خريطة طريق للتعامل معها بشكل متدرج في إطار الخيارات المتاحة اقتصادياً، اجتماعياً، وتقنياً. ذلك أن الغاية المستهدفة من وضع تلك الخريطة هي توفير إمدادات طاقة مستقرة لمواطني المملكة واقتصادها لأطول مدى يمكن التنبؤ به - بإذن الله تعالى- ولعل الخطوة الأولى على ذلك الطريق ترشيد استهلاك الطاقة، وهذا يتطلب العمل على عدة محاور من بينها تنظيم وإدارة حجم الطلب demand management، وإعادة هيكلة الأسعار بحيث يُكافأ من يحافظ على الطاقة ويغرم من يفرط فيها ويبسط يده كل البسط. لكن نجاح مثل تلك الخطوة يعتمد إلى حد كبير على نشر ثقافة الطاقة في المجتمع.
أما الخطوة الثانية على نفس الطريق فهي التوجه إلى إحلال مصادر طاقة بديلة للمواد الهيدروكربونية (النفط والغاز) في إنتاج الكهرباء وتحلية المياه. مثل ذلك التوجه سيسهم في الحفاظ على تلك الثروة لاستخدامات أجدى وأكثر نفعاً من إحراقها. من بين المصادر البديلة التي أثبتت فعاليتها في إنتاج الكهرباء الطاقة النووية التي أصبح يعتمد عليها بشكل أساس كثير من الدول وفي مقدمتها فرنسا التي تحصل على 80 في المائة من كهربائها من خلال ذلك المصدر. لكن إنشاء مثل تلك المحطات يتطلب الكثير من التحضير والمفاوضات المضنية مع الجهات المالكة للتقنية مايدعو إلى التبكير في الشروع في تلك الخطوة. ولعل في إطار ذلك التحضير نبادر أولاً إلى حجز الأراضي اللازمة لبناء تلك المحطات قبل أن تتداخل مع ملكيات خاصة أو مشاريع أخرى، إذ إن مواقع محطات إنتاج الكهرباء بالطاقة النووية ينبغي اختيارها بعناية تراعي جودة التربة، البعد عن المسارات التاريخية المعروفة للزلازل, القرب من مصادر مياه كافية للتبريد كالمناطق الساحلية مثلاً, البعد عن التجمعات السكانية, والابتعاد بقدر الإمكان عن مصادر الخطر الإقليمية المجاورة.
ثم هناك, وفي سياق مصادر الطاقة البديلة, قضية التقنية سواء كانت تلك المصادر نووية, شمسية، أو غيرها. إذ خلافاً لما قد يتبادر لذهن البعض, من المنتظر أن تكون المملكة من أكبر المستفيدين من تلك التقنيات على المدى الطويل ومن ثم بات من مصلحتها أن تبني لنفسها دوراً مؤثراً في تطوير وصناعة تلك التقنيات. ذلك الدور لا ينبغي أن يقتصر على تمويل الدراسات والأبحاث في تلك المجالات، بل لا بد أن يمتد إلى الاستثمار في الشركات التي تمتلك وتنتج تلك التقنيات، وهو ما سيؤسس له الأمر الملكي بإنشاء مدينة علمية تسمى مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي