القضاء .. ما له وما عليه

القضاء هو منتهى الخصومات, بعدله تحمى الحرمات وترد المظالم. يلوذ به المظلوم ويترافع إليه الظالم؛ فيفرق سيف الحق بينهما؛ ليحق الحق ويزهق البـاطل؛ كي يأمن الناس على أعراضهم وأنفسهم وأموالهم. القضاء العادل هو فخر كل الأمم على مر التاريخ؛ حيث تركن كل الأنفس السوية إلى العدل، به قامت حاضرات وأمم، وبفقده فقدت ممالك ودول, لا يخلو تاريخ أمة من سيرة قضاتها العادلين. العدل هو أمر الواحد الأحد في محكم التنزيل، مع الحب والبغض، مع البعيد والقريب، هو أمانة وأي أمانة: ''إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا'' النساء: 58 وقد من الله علينا بقيادة اختارت شرع الله منهاجا، تستبشر بالعدل لأنهم أهله، وتبغض الظلم لأنهم أعداؤه. القضاء العادل هو عون الحاكم العادل؛ فهو من أنابهم عنه ليفصلوا بين الناس بالعدل.
كل ما سبق مشترك إنساني تجمع عليه كل الأمم والشعوب والقوانين، تختلف التشريعات والقوانين ولا تختلف غاية تحقيق العدل. لأجل ذلك؛ كانت هناك مبادئ قضائية عالمية مشتركة تعد من مقومات كل قضاء عادل ولا يقبل التهاون فيها؛ كاستقلال القضاء, ومراجعة الأحكام, وحق الدفاع، والعدالة الناجزة, وغيرها من المعايير الدولية التي هي محل إجماع الأسرة الدولية لعمل قضائي صحيح. ومن ثم؛ فإن الانفتاح على تجارب الآخرين وأخذ المناسب منها؛ هو من الحكمة؛ فالانكفاء ليس من سمات الحضارة. لم يفتح موضوع القضاء لدينا كما فتح في السنوات الأخيرة، ولا يسمح المجال ببيان أسباب ذلك؛ فقد تحدثت الصحافة وتحدث الناس؛ فالقضاء ليس بمعزل عما يدور في أي مجتمع، سواء على الصعيد الاجتماعي أو التنموي أو حتى الإداري؛ فهو يؤثر في كل ذلك ويتأثر به. ولذلك فإن قناعة تولدت بأهمية تطوير مرفق القضاء، هي إرادة سياسية يدعمها كل غيور على سمعة المملكة، ومسؤولياتها كقبلة للمسلمين ونموذج لتطبيق الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي؛ ليقوم القضاء بأمانته على أساس نظامي معلوم للكافة، بعيدا عن الاجتهادات الفردية، والأحكام المتباينة.
لم نعدم قط قضاة العدل، ولم نفتقد قط نوايا صالحة حسنة؛ لكننا، بكل صراحة، فقدنا على مدى سنوات طويلة روح التطوير والمبادرة، ظللنا نتوجس من أي شكل من أشكال التغيير الإيجابي, خلطنا بين استقلال القضاء ولزوم أن تقنن إجراءات التقاضي. كان هناك اتجاه يرى أن الوضع القائم هو الصورة التامة الصحيحة، وأي حديث يجاوز ذلك محفوف بالتجاوز والنوايا المشكوك فيها.
لا يزال عدد من الموضوعات النظامية التي يحتاج إليها القاضي أو المحقق أو المحامي؛ غائبة عن مناهج كليات الشريعة، التي هي المصدر التعليمي لمن يعين من قضاة، ولا يكفي الاعتماد على الدراسة اللاحقة في المعهد العالي للقضاء. هذا الغياب هو الذي أثر ويؤثر في تطبيق عدد من الأنظمة في المحاكم، والمثال الأبرز لذلك: نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية، وهما من يحكم إجراءات التقاضي المدنية والجنائية. التأهيل الفني هو أساس البناء المعرفي للقاضي، ولا يكفي القول إن فيهم الخير، هم كذلك؛ ولكن يجب تأهيل القاضي فنيا حتى يستوعب المتغيرات. التأهيل ليس شهادات الماجستير والدكتوراه فقط، التأهيل هو التدريب الذي تقوم به كفاءات متخصصة في مراكز مؤهلة داخل المملكة وخارجها. يجب ألا ندور في الحلقة ذاتها؛ فالتدريب الضعيف أدى إلى فهم سيئ للأنظمة، وتطبيقات مغلوطة لبعض أحكامها.
السمت ليس هو شكل القاضي فقط؛ وإنما هو أيضا مرافق قضائية تليق بمرفق العدالة، تليق بالحد الأدنى مما يجب لإجراءات قضائية صحيحة، تليق بهيبة القضاء والقضاة, تعكس مكانة المملكة وريادتها. لا تحدثونا عن منصات ذكية، نريد أماكن لائقة. وإن كانت هناك خطة لمبان قضائية فخذوها بعيدا عن بيروقرطيات المناقصات، خذوها إلى حيث نجحت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ومشاريع الحرمين الشريفين، خذوها إلى إرادة الملك الصالح. المباني القضائية ليست في العالم مجرد جدران أسمنتية؛ إنها رموز للعدالة، وواجهة لكل أمة متحضرة.
العدل لا يخشى المواجهة. الالتزام التام بعلانية المحاكمات، وتكريس حقوق الدفاع، والنظر للمحامين كشركاء في العدالة لا خصوم لها, واستيفاء الأحكام للشروط الشكلية والموضوعية، وتسبيب الأحكام القضائية ونشرها, وتنظيمها بما يكفل الوقوف على محتواها، وطباعتها بدل كتابتها بخط اليد في صحف تصل إلى أمتار أحيانا؛ كلها أمور لا تحتاج إلى سنوات من العمل حتى تنجز.
العدالة البطيئة ظلم بيّن. إن لم يأخذ صاحب الحق حقه في وقت معقول؛ فسيحمله ذلك على التفريط فيه. يدور الحديث دوما عن قلة عدد القضاة وكثرة القضايا، وهي حقيقة، لكن لعل الحديث يتسع لمعدلات الإنتاجية والأعمال الإدارية التي باتت من صميم عمل القاضي، والمفترض ألا علاقة له بها. صدر نظام القضاء الجديد (1428هـ) كإحدى نتائج التطوير، وصاحبه أيضا نظام ديوان المظالم، ورافقتهما آلية عمل تنفيذية للنظامين تعالج المرحلة الانتقالية. وهذه مرحلة جديدة لتطوير مرفق القضاء، أعني أن البنية القانونية باتت قادرة على استيعاب التطوير المنسجم مع التطلعات، وبقي البناء الفكري للمؤسسة القضائية، والمبادرة، والتطبيق الصحيح لما يصدر من أنظمة، هي مسؤولية أبنائها؛ بل مسؤوليتنا جميعا؛ فسحابة العدل تروي كل الأنفس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي