زراعة القمح المنهكة
بداية، مسلمتان لا أظن أن أحدا يجادل فيهما, الأولى: استنزاف الماء حتى لو كانت المملكة تسبح على أنهار جارية أمر غير مقبول، والأخرى: الدعم الحكومي يجب أن يستفيد منه الأصغر والأضعف قبل غيرهما، خاصة إذا كانت هناك نواح استراتيجية متشابكة في القضية المنظورة. ما علاقة هاتين المسلمتين بموضوع الزراعة؟ العلاقة تكمن في أن زراعة القمح تم إيقافها بتدرج منذ سنوات عبر تخفيض السعر إلى ''ريال'' للكيلو بحجة أن تلك الزراعة تستهلك كميات مياه ضخمة وعليه فالدعم الحكومي غير مبرر، خاصة أن القمح المستورد أرخص بكثير. لو صحت المقدمة، فالنتيجة قد تكون صحيحة، لكنها ليست كذلك.
مشكلة المقدمة أنها ترتكز على أسس مادية بحتة, فتبدأ ببحث التكاليف المالية، بادعاء أن تكلفة كيلو القمح المستورد أرخص بكثير من زراعة القمح السعودي، فالمستورد ـ وفقا لأحد المصادر - لا تكاد تصل تكلفته إلى ريال للكيلو بينما السعودي يكلف ما يقارب ستة ريالات (شراء الدولة بمبلغ ريال، وتكلفة الماء أربعة ريالات، وإعانة الديزل ريال أخير). ولهذا، فهناك قول قوي بأن استيراد القمح أفضل بمراحل من زراعته. حسبة اقتصادية - أو هي رأسمالية صرفة - مقنعة إذا أخذت بمعايير الأرقام المجردة. أكرر القول إنها مقنعة لو كانت الأرقام المجردة هي المعيار الوحيد. قبل أن نتبحر في المعايير الأخرى، لنسبر هذا المعيار منفردا لنتعرف عن قرب على مدى ملاءمته لبناء قرار استراتيجي عليه بانفراد. مثلا، تكلفة رواتب الموظفين الحكوميين بلغت عام 2003 مبلغا وقدره 107 مليارات ريال (الشرق الأوسط 8933)، ويقدرها الدكتور السلطان بمبلغ 150 - 200 مليار ريال سعودي (''الرياض'' 14409). أجزم أننا لو استقدمنا أيادي عاملة رخيصة -عربية أو أجنبية من الدول إياها - لانخفضت ميزانية الدولة المخصصة للرواتب بنسبة ربما تبلغ 75 في المائة، فالعمالة تلك بإمكانها العمل بربع الرواتب إن لم يكن أقل. بالمنطق نفسه يمكن القول إن استقدام عمالة أجنبية أوفر على البلد من توظيف أبنائه، وعليه فتكلفة توظيف أبناء البلد لا مبرر لها ماديا. وعلى ذلك قس في الإعانات السكنية والتعليم المجاني والخدمات الصحية ...إلخ. أعرف أنكم بدأتم في تقديم الحجج لدحض كل ما ذكرته أعلاه, ولكم الحق, فالأرقام المجردة لا تقدم تصورا شاملا لأي موضوع، ولهذا، الاتكاء فقط على التكاليف المادية يضعف من المقدمة التي بني عليها قرار إيقاف زراعة القمح وقرار تخفيض سعره.
ثاني أسس المقدمة أعلاه أنها ترتكز على استنزاف المياه, وهو الموضوع المؤرق للجميع، فلا أحد يتمنى أن يستيقظ يوما ما ولا يجد ما يشربه, فهل خلال السنوات العشر الماضية تم ترشيد المياه؟ وفقا للسياسة المنتهجة حاليا، فإن صغار المزارعين - الذين يستهلكون ماء أقل في زراعة القمح - خرجوا من القطاع الزراعي ولم يبق إلا الكبار لأن اقتصاديات زراعة القمح بهذه الأسعار لا تمكن إلا الكبار من البقاء. هذا أولا. ويعني أن الدعم الحكومي أيا كان- سعر ديزل أو تكلفة ماء - يستفيد منه الكبار. ثانيا، تقول الإحصائيات المنبثقة من وزارة الزراعة إن إنتاج الأعلاف زاد وانخفض إنتاج القمح في السنوات الأربع الماضية.
هذه الإحصائية تقول لنا ببساطة لم يتوقف استهلاك المياه, بل في تزايد. الأدهى، أنه بدلا من زراعة القمح التي كانت تستمر لمدة أربعة أشهر ثم تتوقف، استعضنا عنها بزراعة البرسيم ـ أو الأعلاف الأخرى- التي تستنزف المياه على مدار السنة، بكميات ري لا تقارن على الإطلاق بزراعة القمح، فكل هكتار برسيم يستهلك أربعة أضعاف هكتار قمح. وهو الأمر الذي يؤكده سمير قباني - رئيس اللجنة الوطنية الزراعية - قائلا إن استهلاك الماء زاد 400 في المائة.
بمعنى آخر، تقول لنا الإحصائيات الرقمية إن السياسة الحالية لم تحقق الأهداف المرجوة, بل على العكس، ربما أسهمت في تفاقم الأزمة, فبدلا من ترشيد استهلاك المياه، استنزفت المياه، وبعد أن كنا مكتفين ذاتيا من محصول القمح أصبحنا نستورده –وأصبحنا نقلق على مناخ أستراليا مثلا، ونوظف الآلاف من البشر في مدن لا نعرف أسماءها في إفريقيا بدلا من القويعية والرس وحرض، وأقفرت القرى والهجر من ساكنيها وأتخمت المدن من المهاجرين، وقسمت بعض المزارع إلى مئات الاستراحات وكل استراحة لها بئر تروي زهورها ومسطحاتها الخضراء على مدار السنة، وخرج من القطاع الزراعي آلاف السعوديين بحثا عن وظيفة ومأوى يقيهم فحيح الليالي المظلمة، وهشمنا قطاعاً أنعش البوادي والأرياف، وكان يسهم في تشكيل أطواق أمنية استراتيجية تحيط برقاب المدن الرئيسة، وكان وسيلة كريمة لإعادة توزيع الدخل، ويسهم في مكافحة التصحر وتجميل فقر الصحارى ومراع غير مكلفة - ماديا أو مائيا.
إذا، الأساس الذي بنيت عليه المقدمة - أعلاه- غير كاف ولهذا النتيجة التي نبعت منه غير دقيقة، فزراعة القمح لا تستهلك مياها كثيرة إذا تم ضبط ''من'' يزرع، و''ماذا'' يزرع، والتكلفة المالية ليست وحدها ما يقرر إن كان هناك مبرر للدعم الحكومي من عدمه، فهناك عناصر أخرى في المعادلة يجب أن تؤخذ في الاعتبار. تدخل الدولة، وإن كان مضرا في بعض أوجه الاقتصاد، إلا إنه يكون مبررا في نواح استراتيجية - فأمريكا لا تزال تشتري الحليب بسعر مرتفع، والأوروبيون يدعمون كل بقرة بما يعادل 2 يورو في اليوم، وهم أساطين الرأسمالية. الدعم ليس شرا كله، خاصة إن كان يحقق أهدافا استراتيجية واضحة وبأقل الأضرار. وعليه، اليوم، أعتقد أنه من الضروري الوقوف بحكمة أمام ازدياد مساحات الأعلاف وتناقص زراعة القمح حفظا لمائنا وحفظا لثرواتنا البشرية. ولهذا فدعم صغار المزارعين عبر شراء كميات قمح محددة بسعر ثلاثة ريالات للكيلو- حتى يكون مجديا لهم- وإيقاف كبار المزارعين عن زراعة القمح وعن المحاصيل المستنزفة للمياه أجزم بأنه سيوفر كثيرا من الماء وسيحقق كثيرا من الفوائد الاستراتيجية للمملكة التي ترجح في ميزان التكاليف والأرباح الاستراتيجية – وليس ميزان الريال والدولار.