صناعة القانون وتنفيذه

ليس من الصعب إعداد مشاريع قانونية جيدة ومتابعتها حتى صدورها؛ إلا أن وضع هذه القوانين موضع التنفيذ هو التحدي الحقيقي للجهات التنفيذية والقضائية على حد سواء. التنفيذ الكامل والصحيح، لا الاجتزاء والتباين المنطوي على الاجتهادات الفردية البعيدة عن روح النص النظامي وغاياته؛ فالأنظمة (القوانين) ليست غاية في حد ذاتها؛ وإنما هي وسيلة لتحقيق المصالح التي تنظمها بالقدر الذي يأخذ في الحسبان الواقع والمستقبل. والخلل الذي يصاحب التطبيق هو إخلال بهذه المصالح حتما.
تشارك الجهات التنفيذية في مشاريع الأنظمة وقد تكون هي من يقترحها؛ إلا أن التنفيذ في حالات كثيرة لا يلاقي الأهداف التي يبتغيها المنظم من صدور هذا النظام أو ذاك. وتتعاطى الجهات مع ما يصدر من أنظمة وفق المصطلح البيروقراطي الشهير ''لإكمال اللازم''. ليتنقل النظام بين دهاليز البيروقراطية حتى يصل إلى الموظف المنفذ؛ الذي يبدأ في التنفيذ باللازم الذي يراه مناسباً.
يردد البعض أن الواقع أحيانا لا يساعد على التطبيق الأمثل لبعض الأنظمة, وأن استعدادات وتحضيرات كان ينبغي اتخاذها قبل صدور النظام, ومع أن ذلك في حالات محدودة قد يكون صحيحا؛ إلا أن هذا الأمر في الغالب الأعم يتخذ حجة والواقع الحقيقي يخالف ذلك. في نظري أن التفسير الصحيح لذلك هو ضعف المبادرة لدى هذه الجهات للقيام بواجبها المنوط بها. التحضير والاستعداد لتطبيق الأنظمة يجب ألا ينتظر صدورها ونفاذها؛ وإنما ينبغي العمل على ذلك أثناء المراحل التي تسبق ذلك، ولو بالتعريف بها على الأقل.
ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتقاسم التنفيذ عدد من الجهات؛ فتبدأ كل واحدة منها تعليق الأمر على الجهة الأخرى، لتبدأ مرحلة جديدة من الاجتماعات التقليدية بين هذه الجهات لوضع أطر التعاون والتنسيق, وقد تنجح هذه المساعي وقد تفشل، لتبدأ جولة جديدة من الاجتماعات, في حين أن الأمر لا يستحق كل ذلك؛ لو أن كل جهة بادرت للقيام بواجباتها كما جاء بها النظام.
نحن نمر بطفرة تنظيمية متسارعة اقتضتها عوامل عدة؛ كان منها مرحلة الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، والطفرة الاقتصادية, وقبل ذلك كله وجود إرادة سياسية للإصلاح والتطوير المستمر. ومن المهم أن يرقى أداء وتأهيل الموظف الحكومي لمستوى الفهم الصحيح لهذه الأنظمة, ولا ينبغي أن تترك هذه الأنظمة للاجتهادات الفردية أثناء التطبيق، وأن تولي الجهات الرقابية هذا الأمر جل عنايتها بتتبع واقع تطبيق ما يصدر من أنظمة فور نفاذها، وتدرج الجهات الحكومية في تقاريرها السنوية ما يشير إلى واقع تطبيق هذه الأنظمة.
''للاطلاع وإكمال اللازم'' ليست الطريق الصحيح لوضع ما يصدر من أنظمة موضع التنفيذ, ولا بد من عقد دورات قصيرة وورش عمل للموظفين التنفيذيين لتعريفهم بالأنظمة الجديدة, وتبيين الإجراءات التنفيذية لهم, وتوضيح المصطلحات القانونية الجديدة التي قد يحملها النص النظامي, وقبل ذلك وبعده إفهامهم أن النظام يجب تطبيقه على الوجه الذي شرع من أجله، لا على الصورة التي تلائم الواقع كما يرونها هم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي