صناعة المستقبل عبر.. تمويله!
هناك مقولة مشهورة لأحد مؤرخي عصرنا الحديث تقول: ''خير الطرق لتوقع المستقبل هو أن تصنعه بنفسك''، وهي المقولة التي يستخدمها خبراء التكنولوجيا بكثرة عندما يتحدثون عن الإنجازات الكبرى، عن الإنترنت الذي جاء وغير التاريخ، وعن الموبايل، وعن جوجل، وقالها أحدهم بالأمس عن جهاز الآيباد (iPad) الذي كان مفاجأة أخرى من ستيف جوبز (رئيس شركة أبل)، والذي أسهم في صناعة المستقبل مرات عديدة عبر السنوات العشرين الأخيرة.
لكن في الحقيقة هناك قصة أخرى وراء كل هذه الإنجازات، ووراء مواقع الإنترنت الكبرى التي صارت جزءا من حياة الناس اليوم، ووراء قصص النجاح التكنولوجية والتي بدأت كلها كمبادرة لشاب طموح لديه الفكرة، ولديه العزيمة لتنفيذها، ولكن ليس لديه المال الكافي.
في كل هذه الحالات، جاء قطاع التمويل، والذي أسهم في صناعة هذه المعجزات في أمريكا وأوروبا وآسيا، وأسهم في هذا التقدم، وقطف الثمرات، وهذا القطاع هو في النهاية عبارة عن مجموعة من رجال المال المتخصصين الذين يبحثون بشغف عن الأفكار الجريئة ويمنحونها جزءا من تمويلهم ودعمهم بسبب رغبتهم في تنويع الاستثمارات، وأيضا بسبب إيمانهم العميق بأهمية دعم المبادرات الجريئة والعبقرية، وكما نجحت كثير من هذه الاستثمارات في المبادرات الفردية وصنعت أمازون وفيسبوك والكثير الكثير من التقنيات المتعددة في كل مجال، فإن كثيرا جدا من هذه الاستثمارات قد فشل أيضا، وتقبلها الممولون بابتسامة المرارة لأنهم يعرفون أن دعم المبادرات الفردية قد ينجح وقد يفشل. في عالمنا العربي الأمر مختلف تماما، فرجال الأعمال والمال الكبار يبحثون دائما عن ''المشروع المضمون'' والذي يتلخص في غالب الأحيان في مشروع عقاري أو في استيراد بضاعة استهلاكية رائجة أو في استثمار بنكي قليل المخاطرة، وهذا طبعا أمر لا غبار عليه وضروري لأي رجل أعمال يبحث عن النمو السريع، ولكنه أيضا يعني أننا كأمة لا نشارك في توقع المستقبل أو صناعته، بل فقط في استهلاك الحاضر.
كثيرا ما يتساءل الأصدقاء الذين يملكون الأفكار الجريئة والذكية، والذين لا يريدون طوق الوظيفة بل حرية الإبداع، وانطلاقة الفكرة، وجرأة الإنجاز، ثم يرون قلة المال عقبة في طريقهم، وإعراض المستثمرين مثارا للإحباط، وكم منهم حاول أن يعرض أفكاره على أحد رجال الأعمال، والذي طرده في النهاية بشكل مهذب من مكتبه لأنه لم يفهم الفكرة، ولم يفهم من أين ستربح، ولم يعجبه قط أن يأتي الربح بعد سنوات، وأن تكون هناك نسبة من المخاطرة.
المال ليس فقط للاستمتاع به، بل هو أيضا الوسيلة الأساسية لبناء الأمم، والحضارات، ومن أنعم الله عليهم بالمال يتحملون مسؤولية هذا البناء، ولديهم الفرصة لكتابة التاريخ، وهم عندما يمتنعون عن ''تمويل المستقبل'' فهم كذلك يتخلون عن تلك المسؤولية ويرفضون المشاركة فيها. في العادة لا يمكن لرجال المال رصد الأفكار الذكية والناجحة لأن كل مجال له متخصصون وله أذكياؤه الذين يعرفون ما سيحقق النجاح، ولذلك يستعين المستثمرون والبنوك عادة بالخبراء والمتخصصين، وهذا أيضا مفقود لدى كثير من رجال الأعمال الذين يحاولون دائما الحكم على الأفكار بأنفسهم، وتكون النتيجة في كثير من الأحيان أنهم ''لم يفهموا المشروع'' وجدواه.
قبل أسابيع قام مجموعة من رجال الأعمال الشباب في المملكة بتأسيس ما يشبه جمعية المبادرات للشباب السعودي الطامح الذي يملك الفكرة وينطلق متحديا كل الصعاب ليحول الفكرة إلى واقع جميل ومؤثر. هؤلاء الشباب يحاولون بطريقتهم الرائعة أن يتوقعوا المستقبل في المملكة عبر صناعته، وهم إن شاء الله سينجحون في الوصول إلى ما يريدون، لأن من يعمل لا بد أن يلقى ثمرة عمله، ولكن النجاح الحقيقي عندما ينشأ قطاع من رجال المال والأعمال الذين يمولون هذه الأفكار ويقفون وراءها ويساهمون هم كذلك في صناعة المستقبل. أنا لا أطالب بشيء غريب فالكل يعرف أن هناك عالما ضخما للاستثمار في الأفكار الجديدة اسمه ''Venture Capitalists'' والذي له رجاله وخبراؤه ومؤتمراته وجمعياته وتدرسه الجامعات الكبرى ومن ينجح فيه يصبح من كبار رجال الأعمال، ومنهم أغنى رجل في العالم كارلوس حلو، وثالث أغنى رجل في العالم وارين بوفيت.
في الأسبوع القادم سأتناول بعض المبادئ العامة الخاصة بهذا النوع من الاستثمار، لعلنا يوما نساهم في توقع المستقبل عبر بنائه وعبر..تمويله!