من تجارة السوق إلى تجارة المافيا

لا بد للمرء أن يشيد بالقرار الحازم الذي صدر عن الحكومة في الآونة الأخيرة بالتصدي للمتلاعبين في سلعة الحديد من تجار وموزعين. إذ جاء ذلك القرار دعما لخطوات وزارة التجارة والصناعة في ملاحقة الانتهازيين الذين لجأوا إلى ممارسات مقيتة لا يعاقب عليها القانون فحسب، بل إن الله -سبحانه وتعالى - قد توعد أصحابها بعذاب أليم. فقد أسفرت الحملات المباغتة التي اضطلعت بها فرق التفتيش من الوزارة وأجهزة الأمن لمستودعات الحديد في مناطق عدة من المملكة عن إدانة عدد من المتلاعبين بإخفاء مخزونهم لرفع الأسعار، كما كشفت عن تورط بعض «الأسماء الكبيرة» التي لم تربأ بأنفسها عن المشاركة في حماقات ضارة باقتصاد الوطن.
وما يدحض ادعاءات أولئك المتلاعبين ما جاء في حديث لرئيس شركة سابك (أكبر منتج للحديد في السوق) نشرته جريدة «الوطن» يوم الأربعاء الموافق 15/4/1431هـ، إذ أكد أن الزيادات في الأسعار غير واقعية، ولا تتناسب مع معطيات السوق، مشيرا إلى أن الطاقة التصميمية لمصانع الحديد المحلية تبلغ 7.2 مليون طن سنويا، في الوقت الذي لا يستهلك السوق أكثر من 6.2 مليون طن سنويا. بمعنى آخر أن أزمة الحديد هي أزمة مفتعلة حيكت خيوطها من قبل من سماهم رئيس سابك «الأيدي الخفية في السوق المحلية» في غفلة من ضمائرهم، وما أكثر تلك الغفلة لدى بعض التجار.
إلى الأمس القريب كان اسم «تاجر» ينبئ عن خصال حميدة كالأمانة والمروءة وتقوى الله، ومن ثم كان التاجر يتبوأ مكانة رفيعة في المجتمع لا تقل عن مكانة العلماء مهما كان حجم تجارته، إذ كان المقياس هو حسن الخلق وشرف الكلمة. ولا شك أن خير نموذج لخلق التاجر في الإسلام هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما- بينما اليوم أصبح اسم «تاجر»، ولا سيما إذا أضيفت إليه صفة «كبير»، من الأسماء المخجلة للبعض بسبب الأذى الذي تتعرض له السوق بين الحين والآخر على أيدي حفنة ممن يشتغلون في مهنة التجارة. لقد تكررت أزمة الحديد، ومن قبلها الأسمنت، أما أزمات المواد الغذائية والأعلاف وغيرها فقد باتت أمرا مألوفا يعانيها المواطن وتتناولها الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى كأحد أبوابها الثابتة. وليت أزمات السوق اقتصرت على تلك المرتبطة بما يحصل في الأسواق العالمية، بل لجأ بعض من التجار إلى اختلاق أزمات خاصة بنا لا مبرر لها سوى الجشع. بالطبع لم تقف الحكومة في أي وقت من الأوقات مكتوفة الأيدي أمام تلك الأزمات، سواء المفتعل منها أو غيرها، بل تصدت لكثير منها بمعالجات سريعة كمنع تصدير بعض السلع، زيادة قيمة الإعانات، تعليق الرسوم الجمركية، التدخل المباشر بزيادة المعروض عن طريق الاستيراد، ومراقبة المخزون في المستودعات. لكن تلك المعالجات، رغم وجاهتها، يبدو أنها ليست كافية لضبط السوق. وهذه ليست دعوة لمزيد من التدخل الحكومي في السوق وإرباك آلياتها على المدى الطويل، وإن كان البعض يرى حتمية ذلك إذا استمر بقاء بعض المتلاعبين فيها وسعيهم إلى السيطرة على مفاصلها. فقد حرصت المملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز (رحمه الله) على مبدأ حرية التجارة ووضعت النظم واللوائح لحماية ذلك المبدأ. لذا قد ترى الجهات المختصة أن الوقت أصبح مناسبا لدراسة دقيقة تبحث عن الأسباب الخفية لأزمات السوق المتكررة وتسليط الضوء على سلوكيات وتحركات كبار المتلاعبين فيها بما في ذلك مصادر التمويل المتاحة بين أيديهم (؟؟؟).
من المؤسف أن البعض يحاول جاهدا أن يسيء إلى حركة التجارة في المملكة في أكثر من مجال تحت ذريعة حرية السوق، وكأنه مكلف بتلك الإساءة. فأزمة الحديد، التي ستنقشع قريبا بإذن الله، ليست أزمة منفردة أو منعزلة، بل هي فصل من مسرحية بدأت عروضها قبل نحو عشر سنوات ولا ندري متى سيسدل الستار عليها، وإن كان ما تم عرضه من فصول حتى الآن يشير إلى نهاية درامية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي