لماذا نحد من الاستفادة من قدرات أساتذة الجامعات؟!

المحامون والمهندسون وغيرهم؛ مهنيون لا تصقل خبراتهم الدراسة النظرية, وإنما يتعين أن يمارسوا تخصصاتهم المهنية؛ ليطوروا مهاراتهم ويسهموا في التنمية بفاعلية. تدفع الجامعات السعودية بعشرات الخريجين سنويا إلى سوق العمل في القطاعين العام والخاص, إلا أن أساتذتهم في الجامعات يظلون في قالب ضيق الأفق يمنعهم من الممارسة باعتبار أنهم موظفون؛ فلا يجوز لهم أن يمارسوا نشاطا مهنيا, وعليهم أن يبقوا في مكاتبهم الجامعية, إلا أن يلبسوا عباءة وظيفية أخرى ويعملوا كمستشارين غير متفرغين بضوابط معينة، وبمقابل ثلاثة آلاف ريال شهريا للعمل كمستشار غير متفرغ لدى الجهات الحكومية!
أساتذة الشريعة والقانون في الجامعات السعودية لا يستطيعون أن يمارسوا مهنة المحاماة, ولا أن يترافعوا أمام المحاكم بهذه الصفة, ويمكنهم فقط أن يعملوا كمستشارين غير متفرغين. والمهندسون هم على الحال ذاته؛ فلا يستطيعون أن يحصلوا على تراخيص لمكاتب هندسية, ولا توجد أمامهم إلا الاستشارات. وقس على ذلك سواهم من أساتذة الجامعة.
واقع نتفرد به؛ فأساتذة الجامعات في كل العالم هم شركاء في الممارسة المهنية, ولهم الحق في الحصول على التراخيص المهنية في مجالات أعمالهم. وليس الهدف من ذلك مجرد الكسب المادي الخاص؛ بل تطوير المجالات المهنية على أساس أن ذلك رافد مهم من روافد التنمية, فضلا عن كونه حقا مشروعا لهم. كما أن الممارسة المهنية تكسب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات مهارات جديدة يستطيعون نقلها إلى طلابهم؛ لردم الهوة بين الدراسة النظرية والممارسة الفعلية.
الدراسة شيء والواقع العملي شيء آخر! عبارة تتكرر دائما, ولا تخلو من الحقيقة؛ لأن أساتذة الجامعات معزولون عن واقع العمل الفعلي بطريقة أو أخرى, ومساحة اتصالهم المهنية محدودة للغاية, حتى ولو بالعمل كمستشار غير متفرغ؛ لأنها علاقة غير مكتملة ومحصورة في إطار ضيق.
النظرة الوظيفية لأستاذ الجامعة أثرت وتؤثر سلبا في التعليم الجامعي لدينا؛ حيث تغلب الدراسة النظرية غير الممزوجة بالتطبيق العملي, وتحمل عددا من أعضاء هيئة التدريس المتميزين في الجامعات على ترك الجامعة؛ ليتسنى لهم الممارسة المهنية. كما أن بناء الخطط الدراسية والمقررات لا يكون مكتملا إلا من خلال الوقوف على الواقع الفعلي, وتلمس حاجات المجتمع الحقيقية.
يمر التعليم العالي في المملكة بمرحلة استثنائية ومنعطف جديد للاستثمار في بناء الإنسان, ولا بد من مراجعة نظام مجلس التعليم العالي والجامعات (1414هـ) واللوائح المتعلقة به؛ فقد صدر عندما كان لدينا سبع جامعات, وهي الآن 32 جامعة حكومية وأهلية, وأكثر من 20 كلية أهلية, والعدد مرشح للزيادة. ولا خلاف حول أهمية الاستفادة القصوى من هذه الكوادر الوطنية في برامج التنمية بشكل مباشر, وننقل أعضاء هيئة التدريس من الاعتماد على البدلات إلى بناء الكيانات.
إن السماح لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات بالممارسة المهنية شكل من أشكال الشراكة المجتمعية, والمساهمة الفاعلة لمؤسسات التعليم العالي في بناء المجتمع, تطبيق حي لمبدأ هدم الأسوار وبناء الجسور؛ فيجب ألا نحصر دور أعضاء هيئة التدريس في قاعات المحاضرات, بل نتيح لهم المشاركة الكاملة والفاعلة التي تحقق المصلحتين العامة والخاصة على حد سواء. ولدى جامعة الملك سعود مبادرة متميزة في هذا الجانب؛ حيث أتاحت لأعضاء هيئة التدريس إنشاء مكاتب خبرة تحت مظلة معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية.
ليس هناك تضارب مصالح بين العمل كأستاذ في الجامعة والعمل المهني المستقل, طالما أن عضو هيئة التدريس يقوم بواجباته داخل الجامعة على أكمل وجه، وكانت لدينا أدوات ومعايير لقياس ذلك. وتجارب الدول الأخرى خير دليل؛ حيث تعد الممارسة المهنية من معايير تقييم كفاءة أعضاء هيئة التدريس, في الوقت الذي نمنع نحن هذه الممارسة.
أساتذة الجامعات يجب ألا يكونوا ''كتجار الشنطة'', تمنعهم النظرة الضيقة من بناء مؤسسات مهنية قادرة على المنافسة الحقيقية؛ فدخولهم الممارسة المهنية قيمة مضافة يتعين الحرص عليها, خاصة أن الحاجة قائمة وبناء الكفاءات ليس أمرا يسيرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي