محنة الثقافة وغياب الثقافة العلمية (2 من 2)
ليس هناك اعتراض على اهتمام المجتمع بالأدب, وليس عندي أي ممانعة من إعلاء الشأن الثقافي الأدبي بكل صوره وأشكاله, لأن في الأدب لغة المشاعر والأحاسيس, فالأدب من أهم الوسائل للارتقاء بإنسانية الإنسان, وما أحوج البشرية إلى أدب إنساني قادر على توحيد مشاعر الناس في مواجهة تحدي الفقر والمجاعة والإرهاب والظلم الواقع على الإنسان وبيئته الطبيعية, فالأدب أداة فاعلة لاستنهاض النفوس إلى رفض ثقافة الكراهية الدينية والعنصرية والطبقية, والأدب خصوصا عندما ينطلق من البعد الإنساني يجعل الإنسان قويا في ممانعته لكل من يريد أن يجعل الحياة ساحة لا مكان فيها إلا للأقوياء والمترفين. الأدب الحق قادر على أن يجعل من الوجدان والأحاسيس والمشاعر قوة توازي ما للمعرفة والثروة من قوة, وهذا التوازي هو الكفيل بإعادة التوازن إلى الحياة, فالثروة وحدها فساد وربما تنتهي بالإنسان إلى الخراب والدمار, والمعرفة وحدها كالحصان الشارد, أما بتكامل هذه القوى مع العاطفة والوجدان فستجد البشرية نفسها أكثر رشدا وأكثر قربا وتفهما لما يجلب لها السعادة والاطمئنان والسلام في حياتها.
معارض الكتاب وإن بدت في الظاهر أنها تحتفي بالأدب والثقافة الأدبية إلا أنها لا تعكس الواقع الحقيقي في مجتمعاتنا, فلا الأدب مقدر عندنا ولا الأدباء مكرمون بيننا. فعندما نسمع أديبا مثل عبده خال, وهو الذي نالت إحدى رواياته جائزة يوكر العالمية, والحصول على هذه الجائزة تأكيد على تميزه وعطائه, يقول عنا وهو يستعير عبارة قالها أديب آخر إننا مجتمع ولود, لكنه جحود, فلسنا بالمجتمع الفقير في إنتاج المبدعين والمفكرين والأدباء والمتميزين, لكننا لا نحتفي بهؤلاء المبدعين والمفكرين, بل ربما يصل بنا الحال إلى إهمالهم ونسيانهم ومضايقتهم حتى يفضل بعضهم العيش في غربة أو هجرة داخلية أو خارجية. صرنا نستكثر على هؤلاء المفكرين والأدباء حتى شكواهم وعتبهم علينا لعدم تقديرنا لهم, فمرة نقول لهم إننا عرب ونحن قوم نؤمن بأن المرء المبدع لا يكرم في أهله, ومرة أخرى نقول لهم ولو بشكل غير مباشر نحن قوم لا نعرف من الفكر والأدب إلا المدح والهجاء, فمن مدحنا قربناه وأكرمناه ولو إلى حين ومن هجانا شردناه. ونسمع أديبا آخر يقول عنا إننا مجتمع قبور ومدافن ومن يريد من المبدعين أن يعيش بيننا فسندفنه كما دفنا غيره, ولعلنا نتذكره ونترحم عليه وندعي الفخر به بعد طول دفان, فنحن مجتمعات لا نحب الحاضر ولا نريد العيش فيه ونعشق الماضي ونتلذذ في الترحم عليه, فمن يريد من مبدعينا الاحتفاء به فليكن جزءا من هذا الماضي ليحصل على ما يريد.
ما أردنا قوله هو إن معارض الكتاب باتت تنحو منحى إيجابيا وهي بذلك تسجل فضيلة لها باحتفائها بالثقافة الأدبية وبتكريمها الكتاب والمبدعين في الشأن الأدبي ولو بشكل دون المطلوب, لكن هذا الحضور البسيط للأدب وثقافته يقابله غياب يكاد يكون تاما للثقافة العلمية وتجاهل يكاد يكون إقصاء متعمدا للمثقفين في الشأن العلمي. وبينا أن الثقافة كمنظومة للارتقاء بإنسانية الإنسان لا يقوم عودها ولا يستقيم أمرها إلا بكلتا الثقافتين الأدبية والعلمية. في الحلقة الماضية وقفنا وباختصار عند أهمية الثقافة العلمية لأن هذه الثقافة هي التي تجعلنا نعيش العلم ومن دونها لا نستطيع أن نستوطن العلم والمعرفة في مجتمعاتنا. غياب الثقافة العلمية تجعلنا مجتمعات فقيرة علميا ولا حياة اليوم لمن ليس عنده علم, فالعلم والثقافة باتا اليوم هما الثروة الناهضة بالشعوب. فإذا كان حديثنا في السابق عن أهمية الثقافة العلمية فإن حديثنا اليوم سيكون وباختصار أيضا هو عن طبيعة هذه الثقافة العلمية وماهية حدودها ومكوناتها. ففي النقاط التالية مقاربة سريعة لهذه الأمور:
1- ما يقصد بالثقافة العلمية هو فهم واستيعاب الإنسان المعارف الأولية العلمية, وهي كل المعارف التي تقوم عليها أنواع العلوم المختلفة, التي تعيننا على فهم الكون الطبيعي من حولنا على حقيقته ومن ثم نؤسس على هذا الفهم رؤيتنا للتعامل ومعالجة القضايا والأمور التي تعرض علينا في حياتنا, أستوحي هذا المعنى من التعريف الذي ذكره الدكتور جيمس تريفيل للثقافة العلمية في كتابه “لماذا العلم؟”, الذي ترجمه شوقي جلال. المرجعية للثقافة العلمية هي ذلك المجموع من المعارف الأولية العلمية, لسنا في حاجة إلى معرفة قوانين الطاقة وتطبيقاتها بالتفصيل لكن من عندهم ثقاقة علمية يعرفون أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث لكنها تتحول من صورة إلى أخرى, فأشعة الشمس هي شكل من أشكال الطاقة وعلى الإنسان أن يستفيد من هذه الطاقة لما ينفعه في حياته, فما تستقبله الأرض من طاقة من ضوء الشمس الساقطة عليها في الساعة الواحدة يفوق ما تحتاج إليه البشرية كلها وفي كل نشاطاتها على مدار عام كامل من الزمن. ولعل من المعارف الأولية أن نعرف أن الطبيعة تسير وبشكل طبيعي ما دام هناك توازن بين مكوناتها والإخلال بهذا التوازن ربما تتكفل الطبيعة بمعالجته في حدود معينة, لكن قد يهتز هذا النظام الطبيعي إذا تجاوز هذا الإخلال حدوده الطبيعية, وفي هذا الاطار من هذه المعرفة الأولية نستطيع أن نعي وندرك كثيرا من الأمور والمشكلات البيئية التي تواجهنا في الوقت الحاضر.
2- الثقافة العلمية بمقدار ما هي مطلوبة من الإنسان العادي فهي مطلوبة وربما بمقدار أكبر بكثير من العالم المتخصص في مجال علمي معين, فعالم الكيمياء ربما يكون متبحرا في علمه وتخصصه لكن ليس عنده من المعارف الأولية التي تخص العلوم الأخرى غير الكيمياء, فتداخل العلوم اليوم يفرض على الجميع أن تكون عنده ثقافة علمية نفهم بها المناخ العام الذي يتحرك في إطاره ذلك العلم. هذه الثقافة العلمية تعين العلماء على فهم بعضهم وتساعد على إيجاد حالة من التوافق بين العلماء تجاه ما يطرح عليهم من قضايا كلية.
3- ليس المقصود بالثقافة العلمية هو المحاولة لإنتاج علماء في مجالات العلوم المختلفة لأن هذا من شأن التعليم الأولي والعالي, فوظيفة الثقافة العلمية هو جعلنا كمواطنين عاديين نفهم كيف يعمل العلم وبالتالي تتكون عندنا صورة صحيحة عما يدور حولنا في إطاره العلمي, فكثير من الناس يحملون صورة سلبية عن العلم بسبب افتقارهم إلى الثقافة العلمية, وهذا ربما يتسبب في إحجام كثيرين عن الدخول في التخصصات العلمية.
4- ما نريده هو أن تكون المعارف الأولية العلمية مكونا رئيسا في ثقافتنا باعتبار أن الثقافة هي التي تشكل رؤيتنا للحياة من حولنا, فالمكون الوجداني مكون رئيس لكن وحده ومن دون المكون العلمي تصبح نظرتنا ورؤيتنا إلى الأمور قاصرة. وإذا كان اليوم الحديث باهتمام عن المواطنة والمواطن فإن هذه المواطنة تتشكل في الأساس في رحم الثقافة وما دامت هذه الثقافة لا تأخذ بالعلم كمرجعية لها ولا تأخذ بالعلم كمكون رئيس في تركيبتها فمن الطبيعي أن نفشل في بناء المواطنة وتكوين المواطن, فالمواطن الذي يفتقد الثقافة العلمية ليس بمقدوره أن يمارس دوره كمواطن في تحديد خيارات وطنية تطرح عليه من وقت إلى آخر, والخيارات الخاطئة تنتهي إلى نهايات خاطئة.
ليس بمقدورنا في هذه المساحة المحدودة أن نناقش كثيرا من الأمور ذات العلاقة بالثقافة العلمية, فكان القصد هو الإشارة إليها ولو من على مسافة ونحن نتعرض لموضوع معرض الكتاب, ومن ثم وجدت نفسي أعود إلى الموضوع في حلقة أخرى تكمل ما بدأناه في الحلقة الأولى. أهم ما تعطينا الثقافة العلمية هو أننا نفهم أن العلم يزيح لنا كل يوم مساحة أو مقدارا من اللايقين في فهمنا ما حولنا. معارض الكتاب نشاط ثقافي محدود, لكنه يعبر عن اهتمامات المجتمع, وعندما تتغير اهتماماتنا ونبدأ نهتم بالعلم بعد أن نتثقف علميا عندها ستكون لنا معارض كتاب في شكل آخر.