الولادات والأرباح.. إيرادات الزكاة وتحصيلها في كتاب «الأموال» لأبي عبيد
إن من أهم الموضوعات التي يلتفت إليها العاملون في إدارة الدولة هو ما يتعلق بتنظيم مالية الدولة، والإجراءات التي يتم من خلالها تحصيل الإيرادات وتقديرها وحفظها وزيادتها، وكذا إنفاقها، وقد تعرضت هذه الإجراءات إلى كثير من التطور عبر التاريخ، وذلك يعتمد على طبيعة المؤسسات وبنائها وقدراتها وطريقة إدارتها. والإجراءات التي تنظم بها مالية الدولة الإسلامية كغيرها من الإجراءات استفادت من التطور الذي حصل في المجتمع على كافة المستويات، بما في ذلك التطور في المؤسسات المالية والاقتصادية. وفي التراث الإسلامي كتب فقهية ناقشت مثل هذه الموضوعات، مبينة قواعدها وإرشاداتها، من أجل التوصل إلى الإجراءات المنظمة للمالية الإسلامية.
وكتاب "الأموال" للإمام أبي عبيد هو من أكثر الكتب توسعاً وشرحاً في مجال النظام المالي الإسلامي، حيث قيل عنه: "إنه خير ما ألف في الفقه المالي الإسلامي وأجوده، وبه كل ما يتعلق بالنظام المالي في الإسلام"، فقد تحدث عن فرض الزكاة، وسماه الفائدة والولادات والأرباح، فإذا كان هناك مال بدأ به الحول وهو ما يسمى أصل المال، ثم حدثت زيادات على هذا المال من الولادات والأرباح، فهذه واحدة من قضايا الزكاة، ويقابلها في التشريعات المالية الحديثة ما يسمى قضايا الضريبة، وهي التي تفرض على الأرباح وما يشبهها من العناصر الأخرى، وعند بحث زكاة التجارات أثار أبو عبيد قضية التقويم النقدي، ويرى أن النظام المالي الإسلامي يتصف بالحيوية والنشاط، ويتسم بالكفاءة العالية والقدرة على استثمار الأموال بالطرق الصحيحة، والدليل على ذلك أنه ربط النصاب الذي تحصل على المال بوحدات عينية، وهذه الوحدات تدفع ضمن تقويم زمني معين وهو حلول عام كامل، ويسمى التقويم النقدي، وينقل أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد الباري قوله: "كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء، جمع أموال التجار، ثم حسبها؛ شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب".
أفرد أبو عبيد باباً مستقلاً لبحث الصدقة المفروضة على الحلي، من الذهب والفضة، ذلك أن زكاة الحلي فيها آراء مختلفة عند الفقهاء، إذ يرى فريق منهم أن الحلي التي تستخدم للزينة لا زكاة عليها، وسواء أكانت تلك الزينة تخص حلي النساء أم حتى التحف المستخدمة في البيوت على شكل زينة، أما أبو عبيدة فيأخذ بوجهة النظر التي ترى فرض الزكاة على الحلي، على اختلاف أنواعها، ويفتح هذا الباب كثيراً من المناقشات حول فرض الزكاة على كل ما يتخذه الناس على شكل حلي، بالنظر إلى قيمته ومقداره، مثل التحف ذات القيمة العالية في بعض البيوت، إذ إن القيمة المالية لمثل هذه التحف يؤدي خزنها دون فائدة مالية متحركة إلى الكساد وسكون السوق، كما تكمن أهميتها في كونها تدر أموالاً كبيرة، وهذا الموضوع له أهميته البحثية والتطبيقية من منظور الإيرادات.
وتحدث في باب آخر عن قضية الصدقة في التجارات والديون، وما يجب فيها، وما لا يجب، والشيء المهم الذي أثاره المؤلف في كتابه هو بحثه المستفيض في قضية فرض الزكاة على الديون، وتتمثل أهمية التسجيل الذي يثبته المصنف لهذا الموضوع في بحثه التفصيلي للآراء الواردة في الكتب السابقة، التي كتبت عن النظام المالي الإسلامي وتعرضت لمثل هذه التفصيلات الدقيقة والمهمة في الوقت ذاته، إذ إن هذا الموضوع وما على شاكلته هو من المشكلات المعاصرة في المالية العامة والضرائب وما يترتب عليه من تطبيقات مالية لها أهمية في حركة النظام المالي وقدرته على الاستمرار والانتعاش.
أما فيما يخص بيع بعض الأموال ذات الطبيعة الخاصة لتحصيل الإيرادات، فإن الكاتب يتشدد في منعها والتعامل بها. وينقل عن ذلك القول المشدد لعلي بن أبي طالب، عندما قال لأحد عماله: "إني أتقدم إليك الآن، فإن عصيتنى نزعتك، لا تبيعن لهم في خراج حماراً، ولا بقرة ولا كسوة شتاء، ولا صيف، وارفق بهم" ويدلنا ذلك على أن هذه الأموال لها أهمية خاصة، لأنها تعد من وسائل المعيشة والكسب، وبها تحصل الأرزاق، أو بمعنى آخر فهي الوسائل التي يستطيع الناس من خلالها كسب قوتهم لتأمين معيشتهم. ومن هنا جاء التشدد في عدم بيعها أو التصرف فيها بدعوى تحصيل الإيرادات المستحقة، وهي قضية ذات أهمية في الوقت المعاصر، إذ هناك القانون المتعارف عليه بقانون الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لأشخاص يلاحقون من أجل تحصيل الإيرادات منهم، وهنا لا بد من التفريق بين ما يجوز الحجز عليه وبيعه وما لا يجوز.
ومن الآراء التي ناقشها أبو عبيد في كتابه قضية الزكاة ووجوبها عندما تكون في عين المال، وليس في قيمته، وذهب مع الرأي القائل إنه يلزم تجنب أخذ الخيار من هذا المال، لما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله لمعاذ: "إني أبعثك إلى أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة في أموالهم، فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم، وإياك ودعوة المظلوم، فإنه ليس لها دون الله حجاب".
ويشدد الكاتب على التلطف بتحصيل الأموال ومراعاة الوضع الاقتصادي للناس، والحفاظ على أقواتهم وعدم المساس بها، ولذلك يعفى المال الأكل المفروض عليه الزكاة، وعلى الخارص ــ وهو الذي يحصل المال ــ أن يترك في الخرص الثلث أو الربع، توسعة على أرباب الأموال؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم، ويكون في الثمرة السقاطة، وينتابها الطير وتأكل منه المارة، فلو استوفى الكل منهم أضر بهم، فإن رأى الأكلة كثيرا ترك الثلث، وإن كانوا قليلا ترك الربع، لما روى سهل بن أبي حثمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع، ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: "خففوا على الناس، فإن في المال العرية والواطئة والأكلة" والواطئة هم السابلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين، والأكلة هم أرباب الثمار وأهلوهم، ومن لصق بهم، والعرية هي النخلة أو النخلات يهب إنسانا ثمرتها، كما أن على المحصل أن يؤخر تحصيل الإيرادات إلى وقت حصاد المال المفروض عليه الالتزام المالي، ومراعاة اللين وحسن المعاملة.