حتى لا تفقد مؤتمرات المصرفية الإسلامية جودتها
استيقظت ذات ليلة على هاتفي الجوال يدق بحرارة عند الرابعة صباحاً، فلم أستطع أن أقاوم فضولي لأرد على ذلك المتصل لأنه في عرفنا هاتف ما بعد منتصف الليل يكون ذا أمر جلل. وبينما أنا أفرك عيني حتى أستطيع أن أقرأ رقم المتصل، ظهرت لي عبارة (Private Number) فزادتني حيرة من أمري .. سارعت إلى زر القبول وإذا به صوت نسائي من شرق آسيا يتحدث اللغة الإنجليزية ويشرح لي أن لديهم مؤتمر عن التمويل الإسلامي سيعقد قريباً، وأنه إذا ما سارعت بالتسجيل سأحصل على خصم يصل إلى 500 دولار بدلاً من أن أدفع كامل المبلغ (1000 دولار).
لم تدرك مندوبة التسويق تلك أن فارق التوقيت بيننا وبينهم قد يصل إلى 6 ساعات، تماماً كما أنها لم تدرك أننا في منطقتنا وصلنا إلى حد الإشباع من المؤتمرات رغم أن كثيرا منها لا يسمن ولا يغني من جوع. هذا إضافة إلى أنها لم تدرك أن المؤتمرات في منطقتنا تفتح أبوابها بالمجان ولا يحضرها إلا القليل، بل إنه في بعض الأحيان تتم الاستعانة بجمهور (كومبارس) لا علاقة له بالموضوع حتى يتم إقناع المؤسسات الراعية أن هناك حضورا حقق هدف الرعاية المالية.
قد يتساءل البعض: لماذا هذا الحنق على المؤتمرات؟ فالمؤسسات المالية الإسلامية قادرة على أن تميز الجيد من السيئ وبالتالي يبقى الأفضل على الساحة. هذا رأي سليم، ولكن من باب التوضيح، هناك قوى خفية تتحكم في صناعة المؤتمرات، إنها قوى العلاقات الشخصية بين المنظمين والرعاة .. ففي كثير من الأحيان تكون المؤتمرات فاشلة من الناحية العلمية والمهنية إلا أنها تحظى برعاية من كبريات المؤسسات .. ما أقصده هو أننا يجب أن نركز على مخرجات المؤتمرات، وليس على التجمعات. ثم إن كثيرا من العلاقات الشخصية لا بد لها من أن تتعارض مع علاقات مهنية، وهو أخطر ما يمكن أن يؤثر في مصداقية العمل على صناعة تقوم أساساً على المصداقية.
يقول لي أحد المعاصرين للصناعة المالية الإسلامية منذ بداياتها (أي عندما كانت مجرد تجارب فردية هنا وهناك) إنه كان يعقد تجمعا سنويا للمؤسسات المالية الإسلامية على هامش الاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية. وكانت قيادات العمل المالي الإسلامي آنذاك تجتمع لتناقش همومها وتحدياتها. وقد أسفر عن مثل تلك الاجتماعات تأسيس اتحاد البنوك الإسلامية الذي حُل في نهاية التسعينيات، وعلى الرغم من ذلك استمرت الاجتماعات وأسفر عنها تأسيس المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في عام 2001.
لقد أصبحنا نفتقد مثل تلك التجمعات التي تقوم عليها مؤسسات من البنية التحتية للصناعة لا يكون لها هدف تجاري. وفي ظل غياب أولي الأمر من الصناعة المالية الإسلامية، وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فأصبحت شركات تنظيم المناسبات التجارية ترتع وتلعب في ساحة هجرها أصحابها، وآلت الأمور إلى ما آلت إليه .. مؤتمرات غالبيتها هزيلة وركيكة علمياً ومهنياً .. متحدثون دفعوا ثمناً مالياً مقابل إتاحة الفرصة لهم للتحدث (مقابل الرعاية) .. لغط وخلط في المفاهيم الأصيلة .. ترويج للمفاهيم المختلف عليها .. مئات الآلاف من الدولارات تنفق عبثاً .. لا نتائج واضحة ولا توصيات ولا لجان متابعة .. لا توثيق لما قيل وما سيقال وما هو متفق عليه أو مختلف فيه .. وغيرها.
وحتى لا يكون الأمر جلداً للذات، دعونا نسأل أنفسنا: هل نحن بحاجة إلى مؤتمرات في الصناعة المالية الإسلامية؟ بالطبع الجواب هو الإيجاب .. إذاً فماذا نريد من تلك المؤتمرات؟
تحتاج الصناعة المالية الإسلامية إلى ذلك النوع من المؤتمرات الذي يركز على همومها ومشكلاتها وتحدياتها، سيما أنها تعمل ضمن بيئة قانونية واقتصادية تقليدية. نحن بحاجة إلى مؤتمرات تقوم على التحضير لها لجان علمية ومهنية متخصصة تدعو أولي العلم والخبرة إلى المشاركة ومن ثم تقيم المشاركات قبل أن تسمح لأصحابها باعتلاء المنصات ومواجهة الجمهور. نحن بحاجة إلى مؤتمرات تخرج بتوصيات مجمع عليها من قبل المؤسسات المالية الإسلامية وتشكل وسيلة من وسائل الضغط على السلطات التنظيمية والتشريعية كي تحسن البيئة التي تعمل فيها المؤسسات المالية الإسلامية. ومن ناحية أخرى، نحن بحاجة إلى مؤتمرات توعوية توجه إلى العامة من جمهور العملاء الحاليين والمحتملين للمؤسسات المالية الإسلامية حتى تنشر الفهم السليم للعمل المالي الإسلامي، خصوصاً أن هناك تيارا قويا يعارض وجود العمل الإسلامي ويحرض ضده .. نحن بحاجة إلى مؤتمرات توحد الصفوف على أمور مختلف عليها وتنبذ الشواذ وتحاربها .. نحن بحاجة إلى مؤتمرات يقوم عليها مخلصون غيورون على واقع ومستقبل الصناعة حتى وإن حققوا ربحاً مادياً في بعض الحالات. نحن بحاجة إلى مؤتمرات يسودها الالتزام والحشمة والاحترام بدلاً من التبرج والسفور والبذخ .. نحن بحاجة إلى مؤتمرات من مثل مؤتمرات الرعيل الأول التي كانت تعقد قبل الانتشار الواسع للصناعة المالية الإسلامية وما يسفر عنها من نتائج ملموسة على أرض الواقع .. نحن بحاجة حقيقية إلى استعادة دور البنك الإسلامي للتنمية ومعهده الإسلامي للبحوث والتدريب، إضافة إلى جهات أخرى غيورة أسست أخيراً (على سبيل المثال لا الحصر الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل في الرياض) من أجل قيادة مثل تلك المؤتمرات، لأنه وبحق من أكثر المؤهلين لذلك من حيث الخبرة والعلم والإخلاص بعيداً عن الأهداف التجارية التي ــ في كثير من الأحيان ــ تقلل من شأن النتائج العلمية والمهنية.