تعطيل العدالة
لم يكن مفاجأة لي، وربما لكثير من القراء، الخبر الذي نشرته جريدة «المدينة» في 25/3/1431هـ عن رصد عدد من الجهات الحكومية المتهاونة في تنفيذ الأحكام القضائية التي يصدرها ديوان المظالم. إذ نسبت الجريدة إلى مصدر مطلع في الديوان وجود قائمة بأسماء تلك الجهات التي بلغ تهاون بعضها إلى رفض الانصياع لما يصدر بحقها من أحكام. كما أشار ذلك المصدر إلى «أن الديوان يعتبر جهة وسلطة قضائية وليس من مهمته التدخل في تنفيذ وإلزام تلك الجهات الانصياع لما أصدره الديوان من أحكام قضائية ولكن كل جهة أو مسؤول محاسب أمام خادم الحرمين الشريفين فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية».
إن ما يدعو للأسف أن تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية وتسويفها أصبح عرفا سائدا لدى كثير من الجهات الحكومية ما يجعل المواطن في منازعاته مع تلك الجهات يفقد ثقته بجدوى التقاضي أصلا طلبا لحقه. فأي عدالة يا ترى ينشدها ذلك الطرف الضعيف في الدعوى أمام خصم لا يقيم وزنا لحرمة المال الخاص أو قيمة الوقت. وإن «تفضل» ذلك الخصم بقبول الاحتكام إلى الشرع بعد سنوات من المتابعة والمراجعات المرهقة من قبل صاحب الحق ، فإنما ذلك إمعان منه في إلحاق الأذى به ماديا ومعنويا، وليس المراد، كما قد يبدو على الظاهر، مساعدة ناظر القضية في كشف الوقائع والحقائق ورصدها بشكل عادل ومن ثم إعطاء كل ذي حق حقه.
لكن اللجوء إلى ساحة القضاء سواء كانت تلك الساحة تحت ولاية المحاكم العامة أو ديوان المظالم يتطلب إنفاق جهد، وقت، ومال في إعداد لائحة دعوى معززة ببيانات ومستندات لتقديمها إلى الدائرة المعنية. وبما أن الحديث هنا عن القضايا التي يرفعها المواطن ضد جهة حكومية وهو ما يختص به ديوان المظالم، يتولى الديوان فور تسلمه تلك اللائحة إبلاغها إلى المدعى عليها مع ضرب موعد لانعقاد الجلسة الأولى بعد أجل قد يصل إلى ستة أشهر أو أكثر وهي مدة كافية لإعداد مذكرة دفاعها. إلا أن ما يجري على أرض الواقع عادة هو أن يحضر ممثل الجهة الحكومية تلك الجلسة مصطحبا معه طلبا بالتأجيل، لا لشيء سوى تعطيل القضية، تحت ذريعة استكمال دراسة الدعوى والرد عليها، مهما كانت تلك الدعوى من البساطة والوضوح كدفع إيجار مستحق أو ما شابه! وإزاء ذلك الطلب لا يملك ناظر القضية إلا أن يستجيب بمنح المهلة المطلوبة وهذا يعني ستة أشهر أخرى من الوقت الضائع.
ولا يكتفي مندوب المدعى عليها بذلك «الانتصار» الذي حققه في الجلسة الأولى، بل يصر على مواصلة مسلسل التعطيل وعرقلة العدالة مرة تلو الأخرى. ففي بعض الجلسات يطالب برد الدعوى، وفي البعض الآخر يتملص من تقديم ما طلب منه من مستندات في جلسات سابقة، بل يبلغ الحال به أحيانا إلى حد التخلف عن حضور الجلسة برمتها. ولولا الحزم الذي يتحلى به أصحاب الفضيلة القضاة في إدارة تلك الجلسات لما فصل في أي من القضايا التي ينظرها الديوان.
وعلى الرغم من أن حكم الديوان يختم بعد مراجعته وتدقيقه بختم ينص على أنه «أصبح نهائيا واجب النفاذ» ويبلغ للجهة المدعى عليها للعمل بموجبه، يبقى حصول المواطن على حقه أمرا بعيد المنال. إذ عليه أن يبدأ رحلة جديدة من المعاناة والسعي بحثا عن ذلك الحق من خلال استعطاف تلك الجهة بأسلوب لا يخلو من المهانة والذل. هناك أمثلة عدة على تلك المعاناة من بينها «قصة» ذلك المواطن الذي فرح بصدور حكم نهائي لصالحه في نهاية شهر ذي الحجة لعام 1429هـ ضد جهة حكومية خدمية، إلا أن معاملته ما زالت تدور في أروقة تلك الوزارة حتى يومنا هذا ما بين مكتب الوزير والإدارات الأخرى في الوزارة، فتارة بحجة طلب إرفاق أصل الحكم، وتارة للعرض على الوزير، وأخرى لتوقيع إقرار أو لإكمال النواقص، وهكذا من الأعذار التي يبدو أن لا نهاية لها. وكنت قد نصحت ذلك المواطن بعرض الموضوع على الوزير شخصيا لعله يتنبه لما يدور، فأجاب بأنه لم يترك وسيلة للتواصل مع ذلك الوزير إلا واستخدمها، ولم يبق إلا أن يقف أمام بوابة بيته!
إن العدالة لا تتحقق بمجرد إثبات الحق لصاحبه فحسب بل لابد من وجود ضوابط وضمانات في الحكم تكفل وصول ذلك الحق كاملا لصاحبه دون انتقاص، كما تكفل وصول الحق في أجل معلوم دون عنت أو مشقة يرهقان صاحبه، أما عدا ذلك فهي عدالة مبتسرة.
لذا قد يستحسن ديوان المظالم وضع آلية يزود من خلالها الجهات الرقابية كهيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية بصورة من القرارات التي تصدر من قبله بشكل نهائي مع تحديد أجل معلوم كحد أقصى لتنفيذ كل قرار كي تباشر تلك الجهات مهامها، وإلا ستضيع حقوق الناس مهما أنصفهم القضاء وربما ساعدنا في انتشار الفساد من حيث لا ندري.