مسؤولية الكلمة في خطاب المليك

من الخطابات التي يبقى أثرها ومعناها راسخاً لدى النخبة والمثقفين والمتابعين لمسيرة هذا الوطن المعطاء ذلك الخطاب الجاد والواضح الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين في الحفل الافتتاحي لأعمال السنة الثانية من الدورة الخامسة لأعمال مجلس الشورى, حيث أكد - حفظه الله - فيه مسؤولية الكلمة وعظم أثرها في مسيرة بناء المجتمع قائلاً ''إنكم تعلمون جميعاً أن الكلمة أشبه بحد السيف بل أشد وقعاً منه'' وحذر - أيده الله - من أن تصبح معول هدم وأداة للغمز واللمز وتصفية الحسابات, فالكلمة تجتمع فيها سمات الخير بأنواعه وسبله، وصفات الشر بأشكاله وطرقه. ولكم نصرت الكلمة أمماً وأطاحت بأخرى، ولكم ارتقت بمجتمعات ودمرت أخرى، ولكم استنارت بفضلها عقول ونمت وتفوقت، ولكم بأحرفها تحجرت عقول وانحرفت وضلت وأضلت. وكم من كلمة أودت بصاحبها المهالك، وأخرى قالت لصاحبها دعني، والله تعالى يقول (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وكما قيل فإن عثرات اللسان تودي إلى المهالك، والخرس خير من التفوه بالباطل، والبكم خير من النطق بالزور وما أكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم. وقد قال الصادق المصدوق :إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه''.
وفي اليوم الذي يتحدث فيه قائد المسيرة عن خطورة الكلمة مخاطباً النخبة التشريعية في الوطن فإن المسؤولية تزداد والأمانة تتعاظم لدفع المسيرة الوطنية نحو مزيد من اللحمة الوطنية الصادقة والبناءة. وما نراه اليوم من بعض الأقلام الصحافية والكتابات النقدية والأطروحات الاجتماعية هو زعزعة لقدسية الكلمة، وتشويه لمصداقية الخبر، وهدم لمعاني التثبت بالنقل والرواية. وإن الغمز واللمز وتصفية الحسابات يعيدنا إلى التفكير الجدي لدراسة الظاهرة وفق أنساق مسبباتها لا مجرد مظاهرها. فهذا الانفلات يستفحل عندما تغيب المرجعية التخصصية في شتى المجالات. تلك المرجعية القائمة على الثوابت من جهة والأنظمة والتشريعات من جهة أخرى وفوق ذلك كله سلطة التمكين فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وهو ثالوث يعضد بعضه بعضاً لبناء الرأي الجمعي المتوازن.
إن الثوابت والأصول في الدول الحديثة هي قيم ومواثيق ترجمت إلى أنظمة وقوانين ترعاها وتطبق مدلولاتها بصرامة وانتظام وعدالة، في حين يتم زعزعتها هنا قبل أن تبلغ مرحلة المدنية الحديثة فيأذن ذلك بتهتك الأصول وتكسير الثوابت وتشويه الفكر وانفلات السلوك الجمعي المطلوب. كما أن داء الشخصنة في الطرح والذاتية في النقد هي نتاج ثقافة غربية تقدس الفرد وتتمحور حول الذات إلى القدر الذي يجعلها حاكمة بصلاح الرأي وفساده. وهي التغريب المبطن بحرية التعبير وقبول الرأي الآخر والتعددية الفكرية المتحررة. وسيكون القادم مخيفاً والمستقبل مقلقاً إن نشأت أجيالنا الجديدة على هذه الفوضى الفكرية.
نعم لتعددية الآراء ولاختلاف وجهات النظر وأهلاً بحرية التعبير وتنوع الطرح, فالكلمة الحرة لها بريق, والتعبير المستقل له نشوة, لكن الكلمة في كل المرجعيات المتزنة تقع دوماً بين مطرقة المسؤولية وسندان الحرية. وهذه المصطلحات الفضفاضة لها دلالاتها ومعانيها وإسقاطاتها الواسعة التي ستؤدي بنا نحو الفئوية والتحزبية إن لم تؤطر بالمرجعيات والثوابت. كما أن مسيرة الانفتاح والتواصل الشعوبي والتبادل الثقافي والالتحاق بمنظومة الإخاء العالمي قد بدأناها أو أريد لنا ذلك فسلكنا طريقها بصفاء ونوايا حسنة وطموح صادق بأن نعلو بين الأمم لنتبوأ مكانتنا التاريخية السابقة، ويجب علينا ونحن نخوض هذه التجربة المستدرجة والمهيبة بأبعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أن نسارع أولاً في ترسيخ أطناب الثوابت والمرجعيات المحلية لنكون مصدرين للثقافة التي نريدها أن تعلو من جديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي