الإبداع القاتل
من بين الأمور اللافتة للانتباه في وسائل الإعلام الغربية في الآونة الأخيرة كثرة الكتابات والتحليلات لما جرى من انهيارات لم تكن متوقعة لبعض الشركات الصناعية والمؤسسات المالية العملاقة والأسباب التي يعتقد أنها كانت وراء ذلك. كما تناول قسم من تلك الطروحات أعراض الوهن وربما الشيخوخة المبكرة التي بدأت تدب في أطراف بعض الرموز الاقتصادية الشامخة التي لا تزال تقف على قدميها. لكن على الرغم من كثرة تلك الكتابات واستحالة الإلمام بكل ما جاء فيها، هناك مقال تميز بأسلوب طرحه المباشر نشرته جريدة «النيويورك تايمز» الأمريكية في 4/2/2010.
كاتب المقال دك براس Dick Brass الذي كان نائباً لرئيس شركة مايكروسوفت مدة سبع سنوات انتهت في عام 2004، اختار «تدمير بإبداع» Microsoft,s Creative Destruction عنواناً لمقاله الذي استهله بانتقاد غياب عملاق تقنيات برمجة الحاسوب عن ساحة الإبداع والتطوير في الأعوام الأخيرة، وهي التي تسيدها لسنوات طويلة عبر البرامج المعروفة باسم Windows and Office. بل إن الصورة التي بنتها «مايكروسوفت» لنفسها كرائدة في سبر آفاق التقنيات الجديدة بدأت تتلاشى على نحو متسارع، حسب تحليله، رغم أنها تمتلك أكبر مراكز خاصة للأبحاث في العالم ويعمل في مختبراتها الآلاف من أفضل العقول. صحيح أن تلك الشركة حققت أرباحاً طائلة بلغت نحو 6.7 مليار دولار في الربع الأخير من العام الماضي، إلا أن جل ذلك المبلغ كان مصدره البرامج التقليدية التي أنتجت قبل عدة عقود من الزمن، وهي حال لا يمكن للشركة أن تعول عليها للأبد أو ترهن مستقبلها عليها.
ويطرح الكاتب على نفسه سؤالاً عن الأسباب التي دفعت بالشركة إلى تلك الحال، وهنا تأتي المفاجأة في إجابته غير المتوقعة إذ زعم، ودون تحفظ، أن «مايكروسوفت» لم تبن قط نظاماً حقيقياً للإبداع innovation, بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما نسب إلى بعض زملائه السابقين في الشركة قولهم إن النظام الذي بنته الشركة هو في حقيقته عائق للإبداع! ثم ضرب الكاتب عدة أمثلة لدعم رأيه مستشهداً ببعض التقنيات المبتكرة التي كان للشركة قصب السبق في اكتشافها إلا أنها لم تَرَ النور وضلت طريقها بسبب بيئة المنافسة الداخلية غير المنضبطة والمدمرة للإبداع. عنصر المفاجأة في تلك الإجابة أن كثيرا منا ارتبط في ذهنه على مدى سنين طويلة اسم «مايكروسوفت» بكل ما هو جديد من اختراعات في تقنية المعلومات، وإذا كانت بيئة العمل في ذلك الرمز الكبير لا تحفز على الابتكار والإبداع .. فماذا يا ترى يمكن أن يقال عن الآخرين؟
من بين الممارسات التي رصدها الكاتب في مقاله عن شركته السابقة ما هو جدير بالتأمل كي يتعلم المرء منها. إذ يلقي بجزء من اللائمة على تمسك الشركة بالتقاليد القديمة نفسها التي أرستها منذ نشأتها عام 1975م دون تغيير يذكر، التي قضت بالتركيز على الأعمال البرمجية لربحيتها العالية وقلة مخاطرها، والابتعاد عن تطوير الأدوات والأجهزة لما تتسم به عادة من مخاطر تجارية عالية. ويرى السيد «براس» أن تلك الوصفة أضاعت كثيرا من الفرص على «مايكروسوفت» ولم تعد تنسجم مع متطلبات السوق اليوم، بل إنها جعلت الأمر أكثر صعوبة عليها لتحقيق اختراقات في مجال تطوير وتصنيع أجهزة حفظ وتبادل المعلومات، والاتصالات.
مأخذ آخر رصده صاحب المقال عن بيئة العمل في شركته السابقة هو محاربة الحرس القديم كل فكرة جديدة لم يكونوا مصدرها، ودورهم المؤثر في تفضيل البرامج التقليدية القائمة على حساب الدماء الجديدة عند توزيع مخصصات الأبحاث وغيرها.
إن تجاهل متغيرات الزمن والتمسك بالتقاليد القديمة من أجل مكاسب قصيرة الأجل نسبيا يعد من الممارسات الشائعة في إدارة كثير من الشركات, لا سيما على المستوى المحلي. ومع الأسف أن أصحاب الشأن عندما يتنبهون إلى ذلك الخلل يكون وقت الإصلاح قد فات أو أن تصبح تكلفة العلاج المادية والمعنوية أكبر من الإمكانات المتاحة.