مستقبل الدولار الأمريكي (2)
لا شك أن الصدمة التي أحدثتها أزمة المال على الاقتصاد العالمي كانت كبيرة. ولولا خطط الإنقاذ الضخمة التي تبنتها مختلف دول العالم وفي مقدمتها خطط الولايات المتحدة حيث مركز الكارثة، لواجه العالم انهيارات متعاقبة لا تبقي ولا تذر! لكن على الرغم من بوادر التماسك ومؤشرات الانتعاش الضئيلة التي تظهر بين الحين والآخر في الولايات المتحدة، إلا أن هناك مخاوف متزايدة في كواليس الأسواق المالية الدولية حول مستقبل وضع الدولار الأمريكي كعملة احتياط واستثمار دولية. ذلك أن خطط الدعم وبرامج الإنفاق الضخمة التي تبنتها الولايات المتحدة من خلال السياستين المالية والنقدية أخذت تثير شكوكا قوية حول مدى قدرة الدولار على التماسك في مقابل بقية عملات العالم. وكذلك عما سيترتب على هذه السياسات من آثار على معدلات التضخم، ومستويات أسعار الفائدة، وحركة التدفقات التجارية، وتكوين الاحتياطات النقدية، وأسعار السلع الأساسية، وبشكل عام أثارت هذه التطورات تساؤلات منطقية حول قدرة الاقتصاد الأمريكي على الحفاظ على مكانته الدولية.
تقدم القول في الأسبوع الماضي، أن الدولار ـ على الرغم من كل ما جرى - سيحتفظ بموقعه كعملة احتياط واستثمار دولي لبعض الوقت نظرا لقوة الاقتصاد الأمريكي ولعمق وتعدد أسواق المال التي تتعامل بالدولار، وأيضا لعدم وجود بديل قريب. بيد أن هذا لا يقلل من حقيقة تزايد قلق الأفراد والشركات والمؤسسات والمصارف والحكومات على قيمة ما يحوزونه من دولارات نقدية وعلى قيمة ما يمتلكونه من أصول مقومة بالدولار. فعلى الرغم من أن سعر الدولار ارتفع في بداية الأزمة، ربما بسبب ندرة الحصول عليه آنذاك نتيجة صدمة جمود الائتمان، إلا أن قيمته – وفقا لبعض الدراسات - انخفضت خلال الأشهر الثمانية الأخيرة بنحو 15 في المائة مقابل سلة موزونة من العملات الدولية. أما إذا نظرنا إلى مدى أطول، فيمكن القول إن الدولار فقد 40 في المائة من قيمته خلال السنوات السبع الماضية. ومن الواضح أن هذا التدهور يعزى لتزايد قلق المتعاملين في الأسواق الدولية من خطط الإنقاذ والإنفاق الضخمة، إضافة لقلقهم من العجز المتفاقم والمستمر في الميزان التجاري الأمريكي وفي الموازنة الحكومية، حتى بات الجميع مقتنعا بأن السبيل الوحيدة المتاحة لأمريكا للسيطرة على هذا العجز التجاري هي زيادة الصادرات الأمريكية، ولا سبيل لزيادتها إلا عن طريق تخفيض سعر الدولار لتبدو السلع الأمريكية أرخص في الخارج. ومن ناحية أخرى، فإن سياسة تخفيض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، دفعت المستثمرين الدوليين لبيع ما لديهم من دولارات لاستثمارها في أصول أخرى تعطيهم عوائد أعلى، سواء في الأسواق الأوروبية أو الآسيوية.
هذا هو المشهد القائم الآن فهل سيستمر انخفاض الدولار في السنوات المقبلة؟
نعم يبدو ذلك! فمن الملاحظ أن قيمة الدولار اليوم – بعد أن نعدلها بمرجحات وأوزان مناسبة تأخذ في الحسبان نسب التضخم - هي عند أدنى نقطة سبق أن بلغها الدولار في أوقات سابقة، مثلما كان عليه سعره في 1979م، وكذلك في نهاية 1990م. وقد يتوقع البعض أنه ليس بعد هذا الانخفاض سوى الارتفاع بناء على تجارب الماضي. لكن علينا أن نلاحظ أن ارتفاعه في الماضي كان بسبب السياسة النقدية الانكماشية التي اتبعها بنك الاحتياط الفيدرالي في تلك الفترات، ومن الواضح أن هذه السياسة ليست متبعة الآن ولا هي وشيكة الاتباع بالنظر إلى حالة الكساد التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي. بل العكس هو الصحيح، لذلك هناك أسباب قوية لتوقع مزيد من الانخفاض في قيمة الدولار. وإذا كان هذا أمرا مناسبا للأمريكيين، فهو غير مناسب بالضرورة لسواهم. إذ أن فيه خطورة على من يحوزون الدولارات وعلى من يمتلكون الأصول المقومة بها. والمستثمرون عادة لن يكونوا راغبين في الاحتفاظ بعملة يتوقعون انخفاضها. لذا فإن الدولار سيواصل انخفاضه حتى يشعر المستثمرون أنه وصل مستوى يشعرون أنه أصبح عند مستوى مقبول لشرائه. ومن ناحية أخرى، فإن التوقعات بانخفاض الدولار ستدفع المستثمرين إلى تنويع محافظهم الاستثمارية بعيدا عن الدولار، وهو الأمر الذي سيولد ضغوطا إضافية على الدولار نحو مزيد من الانخفاض، لكن ربما يعمل الخوف من السياسات التعويضية المعاكسة على كبح سرعة انحدار قيمة الدولار بعض الشيء.
ومن ناحية ثالثة، فوصول أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى مستوى قريب من الصفر، سيدفع بعض المستثمرين إلى اقتراض الدولارات الرخيصة من السوق الأمريكية، ليشتروا بها أصولا ذات عوائد أعلى بعملات أخرى. لكن نجاح هذه السياسة يعتمد على قيام الحكومات الآسيوية (كالصين واليابان) بالتدخل في أسواق العملات لمنع عملاتهم الوطنية من الارتفاع تجاه الدولار. وطالما التزم الآسيويون بهذه السياسة فسيكون من المربح للمستثمرين شراء الدولارات بالفائدة الرخيصة من الأسواق الأمريكية واستثمارها في أصول غير دولارية ذات عوائد أعلى. بيد أن هذه سياسة لها مخاطرها بطبيعة الحال. فمن المحتمل جدا أن تتسبب هذه الحركات في ارتفاع كبير في أسعار الأسهم والعقارات الآسيوية. بمعنى أن سياسة النقود الرخيصة الأمريكية ستعمل على خلق فقاعة أصول في الخارج بدلا من إحداثها في داخل الولايات المتحدة. لكن يبدو أن الصين ستراقب ذلك ولن تسمح به. فإذا تصورنا أن الصين عملت على رفع عملتها لمنع حدوث فقاعة في أسعار أصولها، فإن سياسة شراء الدولارات الرخيصة من السوق الأمريكية لشراء أصول في الخارج ستحقق خسائر لأصحابها. حينها سيؤدي ذلك إلى انهيار فقاعة الأصول الصينية. ولو كان هؤلاء المستثمرون متورطين في ديون عالية، فقد يتسبب ذلك في انتشار خسائر متتالية تنتشر عبر مختلف اقتصادات العالم. وباختصار، يبدو أن كل الدلائل والحقائق على أرض الواقع تدل على أن قيمة الدولار ستتعرض لانخفاض مستمر خلال العقد القادم، وعليه ينبغي علينا الاستعداد من الآن بسياسات حكيمة لمواجهة ما هو متوقع. ومن أهم ما علينا دراسته بعمق كيفية الحفاظ على قيمة احتياطاتنا من الدولارات وكذلك ثرواتنا المستثمرة في أصول مالية مقومة بالدولار من الخسائر المتوقعة نتيجة انخفاض قيمة الدولار. كما أن علينا التفكير في التخلص من عيوب ارتباط سياستنا النقدية بالسياسة النقدية لبنك الاحتياط الأمريكي، حيث تتعارض في كثير من الأحيان المصالح، كما جرى في تضخم الأسعار في سنوات 2007 و2008م. فقد اتبع المركزي الأمريكي سياسة نقدية توسعية فيما أجبرنا ارتباط الريال بالدولار على اتباع السياسة نفسها, مع أن المناسب لنا كان اتباع سياسة نقدية مقيدة لمواجهة مشكلة تضخم الأسعار آنذاك.