جدة تستعيد عافيتها

ملف كارثة جدة يؤكد أن ملفات الفساد لن تبقى مغلقة إلى الأبد، وأن مواعيد المحاسبة وإن تأخرت فلن يطويها الزمن إلى الأبد. الموضوع مجرد وقت، فلا توجد جريمة تامة أبدا مهما طال الزمن. ليعلم الفسدة أن عصا العدالة ستضرب بكل حزم إن لم يكن اليوم، ففي الغد القريب أو البعيد. لا توجد حصانة أبدية. من الممكن أن يتوارى المجرم عن الأعين فترة من الزمن لكنه سيبقى رهينا لخيوط متناثرة تحيط بعنقه دون انفكاك حتى إن كانت برفق, وإن لم يكن في حياته فسيكون في حياة أبنائه أو أحفاده. لن يهنأوا، هذه حقيقة عالمية.
فاجعة جدة ليست استثناء لا في المملكة ولا في العالم. الفساد يحدث في أي بقعة من بقاع العالم، فالنفس الأمارة بالسوء لا تعرف جنسا أو موطنا محددا. محليا توجد حالات فساد متفرقة كما برهن تقرير هيئة الرقابة والتحقيق لعام 1429هـ المتضمن اكتشاف 1222 قضية تزوير، و685 قضية رشوة، و434 قضية إساءة معاملة باسم الوظيفة، و260 قضية تزييف عملة واختلاس واشتغال بالتجارة وتفريط في المال العام، وبلغ عدد المتهمين في تلك القضايا 3875 متهماً، كما تضمن تقرير ديوان المراقبة العام الأخير كثيرا من علامات الاستفهام الضخمة مثل «صرف عدد من الجهات الحكومية مبالغ دون وجه حق أو الالتزام بها دون سند نظامي .. ضعف تحصيل بعض إيرادات الخزانة العامة وتوريدها في المواعيد المقررة لذلك...», وهذا فقط ما تم اكتشافه وقد يكون الخافي أعظم.
دوليا، قضايا الفساد تزكم الأنفس وتملأ الأجواء في كل بقعة، تتكاثر أحداثها في إفريقيا وجنوب أمريكا، ولا تخلو منها ما يسمى دول العالم المتقدم، كحادثة فساد تحدث وقائع محاكمتها حاليا في شيكاغو وتشمل تورط مسؤولين حكوميين بمن فيهم عمدة المدينة لابتزاز وتمرير عمليات مشبوهة تتعلق بعمل شركة مقاولات عملاقة، وشركة طيران بريطانية تدفع 400 مليون دولار للحكومة الأمريكية كغرامة عن مخالفات لقانون مكافحة الفساد، والطليان لا تنتهي قصة فساد إلا وتبدأ أخرى, الفساد في كل مكان فيه تجمع بشري, فلا نجزع أو نجلد ذواتنا بسياط لا نهاية لها.
لكن كلما ترقت الدول وازدادت سطوة القانون على سطوة البشر – قانون حتى لو كانت فاطمة بنت محمد - ضاق البعد الزمني بين الجريمة والعقاب، وانخفضت معدلات الجريمة للحدود الدنيا لأقصى حد. وكلما تردت الدول، ازدادت سطوة الفوضى والتجبر، وطالت بالتالي الفترة الزمنية بين الجريمة والعقاب، وارتفعت وتيرة الجريمة لمعدلات عالية. في عالم الفوضى تدور العجلة ويزداد التخبط حتى تبلغ درجة الاحتقان حدا لا يسمح بالمزيد، فتتفتق الحالة المرضية عن حالة جديدة تعالج السابق بكل ضراوة. والمعيار الذي ينبئ عن ترقي وتخلف الدول هو الشفافية في معالجة الأوبئة والأمراض التي تصيب شرايين الحكومة. في الدول المتقدمة، يتم الإعلان بكل أريحية عن ملفات الفساد وعن المحاكمات والعقوبات ساعة حدوثها. ويضعف بريق الشفافية كلما ضعفت بنية الدولة حتى تصل إلى آخر مراحل الانحطاط وتنعدم الشفافية جملة وتفصيلا.
اليوم في كارثة جدة, تبرهن المملكة على علو كعب القانون وعلى ترق مستمر في معالجة الكارثة فور حدوثها دون تهاون أو تراخ. كما تثبت المملكة أيضا سعيها الدؤوب لاحتلال مراكز متقدمة في سلم الشفافية العالمي، عاكسة موقعها الريادي والحضاري، عبر الإعلان الفوري المستمر لنتائج وتداعيات كارثة جدة. وهو العرف القانوني المهم ترسيخه ليكون عنوان كل حدث وكل قضية عامة. انتهت فصول التحقيق في الكارثة, والنتائج ستكون مدوية بلا جدال, فخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ سلمه الله - هو القائل: «سوف نستمر - بإذن الله - في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد», وهو القائل: «أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً وأن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة», وهو القائل: «من حقكم عليّ أن أضرب بالعدل هامة الجور والظلم».. فلنكن مطمئنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي